رواية ” راضية ” الفصل الخامس والسادس للأديبة ” نهال عبد الواحد”

الفصل الخامس

وذات يوم كانت كريمة وراضية قد خرجتا لشراء لوازم وملابس العروسة، ذهبتا لموقف السيارات تنتظران سيارة أجرة تقلّهما إلى المدينة للشراء من المحلات هناك وأثناء انتظارهما، تحدثت كريمة: إفردي وشك ع الصبح.

تأففت راضية ونبست: هو دي أخري.

– يا بت افرديه حتى عشان ربنا ييسرها ونلاجي طلباتنا بسرعة، بدل ما نلف كتير و إنتِ عروسة و ماعايزنكيش تتعبي.

– أباااي عليكِ!

صاحت بها راضية وقد إرتفع صوتها وأَسمع من حولها الذين يقفون في الموقف فانتبهوا إليها ونظروا إلى تلك الجميلة الغاضبة.

وكان من بين الواقفين الدكتور علي العريس الذي انتبه للصوت و لصاحبة الصوت فنظر نحوها نظرة طويلة كأنه لم يصدق عينه أن هناك جمالًا هكذا لم يعرف كيف انجذب إليها! ولماذا؟
فهذا ليس بطبعه، فقد اعتاد الذهاب لعمله في المدينة و العودة دون أن يرفع عينيه في أي واحدة … ترى من تكون؟
وهل تجئ هنا باستمرار أم ماذا؟
إهدأ يا علي ماذا دهاك؟
كان في صراع شديد مع نفسه يريد أن يستدير بنظره عنها فذلك لا يصح إطلاقًا لكن كان الأمر صعبًا حقًا عليه.

وجاءت السيارة وركبت كريمة وراضية، ركب هو الآخر وجلس خلفهما، لم ينزل عينيه من عليها  حتى وصلت السيارة ونزلتا الفتاتان وهو خلفهما.

كانت الفتاتان تسيران بين المحلات وتدخلان في كل محل وكانت راضية تسير مجبرة وتاركة لكريمة كل شيء تشتريه كما تريد وكما تراه حلوًا.

ولا زال علي خلفهما وهو يتعجب من نفسه فلم يحدث له مثل هذا من قبل، وكانت كريمة قد ملت من سكوت راضية فنادتها وكان صوتها مسموعا: ما تجولي رأيك بجه يا عروسة.

وما أن سمع علي تلك الكلمات حتى نزلت على مسامعه كالصاعقة عروس!

بالطبع نعم،  فكيف لهذا الجمال ألا تكون عروس؟! فمن تكون إن لم تكن هي؟
إنها إذن ملكًا لشخصٍ ما فلا يصح ولا يحل أن ينظر إليها هكذا،  ولايفكر فيها إطلاقًا.

فتركهن وانصرف لكن صورتها وملامحها محفورة بداخله لا يستطيع نسيانها أو صرفها عن ذهنه و عن نفسه، تصيح أصواتًا بداخله…
لماذا أقابلك وأنتِ لغيري؟
لماذا و كيف أقع في هواكِ بهذه السهولة وأنتِ لن تكوني لي أصلًا؟
لماذا الآن وقد اقترب موعد زواجي؟
موعد بلا خيارٍ لي و زوجة بلا إرادة ولا رغبة…. ترى الآن بعد أن رأيت تلك القمر و تغلغلت في أعماق قلبي….. ما صعوبة هذا الإبتلاء؟!
قويني يا الله!
صبرني يا الله!
إجعلني أنساها فأنا أخشاك ولا أغضبك، قويني يا الله…. قويني يا الله!

ولم يكن يعلم بالطبع أن تلك القمر التي تُيّم بها على غفلة وبدون مقدمات هي حظه ونصيبه الذي يود لو يفر منه…

فتعود آهات قلبه متمتمة داخل أذنيه….

رمت الفؤاد مليحة عذراء
بسهام لحظ ما لهن دواء
مرت أوان العيد بين نواهد
مثل الشموس لحاظهن ظباء
فاغتالني سقمي الذي في باطني
أخفيته فأذاعه الإخفاء
خطرت فقلت غزالة مذعورة
قد راعها وسط الفلاة بلاء
وبدت قلت البدر ليلة تمه
قد قلدته نجومها الجوزاء
بسمت فلاح ضياء لؤلؤ ثغرها
فيه لداء العاشقين شفاء
(عنترة بن شداد)

ظل علي أياما و ليالي يحاول أن يعيد لنفسه رشدها و يحاول نسيان تلك الفتاة، لكنه قد شعر فجأة أنه قد مرض و أصيب بحبها بل إنه ليس بحب بل عشق غريب وفوق العادي، فمجرد أن يتذكرها يشعر بروحه ترفرف.
لكن ماذا سيفعل؟
فكلاهما سيتزوج، هو سيتزوج بحكم مجلس الرجال زيجة غصبًا وهي يبدو عليها عروس ستتزوج قريبًا،
إذن فاستعد لنسيانها و الإستعداد لحياة حقيقية.

أما راضية فكانت تخرج مع كريمة وأحيانًا أخيها لاستكمال ما تبقى من شراء لوازم الزواج.

انتهوا من كل شيء ولم يرى علي حتى الآن وجه راضية التي لم يسعى أصلًا لرؤيتها ولا للذهاب إليها مثل أي خاطب، ولم يُرى على وجه راضية أي مظهر من مظاهر لفرح أو سرور.

وكانت رتيبة زوجة عمها قد حرّضت نساء العائلة لمقاطعة راضية فلا يأتوها في خبيز العروس رغم أن راضية كانت دائمًا هي أول الحاضرات في الخبيز و الحنة وفرش العروس.

فليلة الحنة التي تسبق يوم الزفاف فهي حسب عادات أهل الصعيد تكون أكثر وضوحًا في بيت العريس أما بيت العروس فللمقربات فقط اللاتي يكن غالبًا في شقة العروس، فالعروس حسب عاداتهم لا ترى بيتها و لاتذهب إليه لفرشه ولا لزيارة أهل العريس.

قامت راضية وكريمة بكل خبيز العروس وهو عبارة عن كميات كبيرة من الخبز نوع أو اثنان لأن النوع الثاني يُسمى الخبز الشمسي وهو يحتاج لمهارة عالية في صنعه وهي ليست عند الكثيرات.

وذلك الكم الهائل من الخبز يذهب به لبيت أهل العربس فيأكل منه المدعوون يوم الحنة و الفرح والصباحية مع الطعام الذي يطبخه الطباخ لكل الزائرين.

ويخبز أيضًا الناعم (الكعك)  ويكون سادة و البسكويت ويكون أيضًا ناعم للغاية والفايش وأحيانًا يكون هناك البيتي فور والغريبة لكن يختلفون عن البيتي فور والغريبة التي نعهدها من حيث الطعم والدسامة و اللون حيث أن السمن الصعيدي متسم بلونه الأصفر الكناري.

ذهبت كريمة ليلة الحناء لبيت راضية لتفرشه وتعده تماماً  وقد تأخرت كثيرًا.

إن الزائرات في ليلة الحناء تذهبن لمشاهدة بيت العروس وأشياءها فكلما وضعت الأشياء منها بداخل خزانة الملابس تجئ إحداهن لتفتح وتخرج الملابس لتفحصنها وأيضًا المفروشات وحتى الأواني .

وأخيرًا عادت كريمة للبيت منهكة بعد مجهود شاق فوجدت راضية في مكان الخبيز.

صاحت كريمة: إيه يا راضية اللي مجعدك إهني دلجيتي!

– خبزت فطير الصباحية؛ إنتِ إنهلكتي يا كريمة وهتاجي م الفرح مافكيش حيل لخبيز تاني.

– واه يا راضية في عروسة ليلة جوازها تجعد جار الفرن و تعمل فطير! عتجنيني!

– ععمل ايه! لا عندي أم ولااخت، وإنتِ هديت حيلك بزياداكي يا كريمة إرتاحي إنتِ حبلى.

– إخس عليكِ يا راضية،  هو أنا مش بت عمك وأختك؟!  لو ماهدتش حيلي لكِ إنتِ ععمل لمين؟

– نتعبلك يوم ما تفرحي بولادك يا خيتي .

قالتها راضية ممتنة، فأكملت كريمة: و الولية رتيبة مرت عمنا دي طلعت مرة سو صوح؛ راحت تجول لحريم العيلة ما يحضروش لا الخبيز و لا حاجة، جاتها مصيبة!

– والله مُصلحة أجليه ارتاحنا من عكعكة الحريم ف العجين.

– إسكتي يا راضية الناس عيتهبلوا عل عيش وبيحكوا ويتحاكوا بيه، حتى الولية حماتك سألتني مين اللي خبز وما صدجتش لما جلتلها إن إنتِ كيف خبزتي كل دي وحديكي ويطلع زي العسل إكده؟

– هي البعيدة بجرة ولا إيه! رايحة تجولي للولية إني بطولي! بكرة يمرمطوني عنديهم.

– واه!  غابت عني كِيف دي؟

– ما جلتلك بجرة.

– مجبولة منيكِ يا عروسة،  تعالي يلا جومي خليكي تلحجي تتسبحي و ترجدي.

– طب خلي بالك أنا فردت الفطير،  ما تنسيش تعبيه أول ما يبرد ف الفريزر، ولما تاجي م الفرح تطاعيه يفك وعل الفجر إكده شمميه النار، شمميه بس يا ناصحة عشان لا ينحرج ولا ينشف.

– حاضر حفضت جومي يلا.

وقامت راضية وذهبت مع كريمة………….

الفصل السادس

وفي اليوم التالي يوم العرس ذهبت راضية والعروس الأخرى إلى نفس مكان التجميل وكان من عادة الكثيرات خلع الحجاب في الزفاف ولبس فستان مفتوح بعض الشئ.

و في مكان التجميل، حملقت العروس براضية ثم سألتها: إنتِ بجه عروسة واد عمي علي؟

أومأت راضية بروتينية: إن شاء الله.

– أمال ما فرحناش ليه؟ ده انت عتاخدي زينة شباب العيلة، لا ده زينة الشباب كلاتهم.

– لا والله! طب ماانت كماني عتاخدي زينة الشباب.

– أصلي ما شيفاكيش فرحانة.

– أجوم أتحزملك و أرجص ولا إيه يا سامية؟!

– وليه لا؟! ما لونتيش شعراتك يعني؟!

-بحبه أسود إكده.

-وااه! إفرضي واد عمي ما عيحبش الأسود؟!

-لما أبجى أعرفه الاول أبجى أغيرله لون شعري.

مر بعض الوقت وبدأت خبيرة التجميل تصفف شعرهما وتصنع فورمة لشعر كلا منهما، لكن لأن شعر راضية شديد النعومة كان ينزلق كلما فعلته خبيرة التجميل حتى ملت منه وقالت لها: معلش يا عروسة شعرك بيفك كل شوية مش عايز يثبت.

فقالت راضية بلامبالاة: خلاص سبيه إكده.

فضحكت منها سامية وقالت: واااه يا راضية عتخوفي الناس!

ثم أكملت ضحكها، فتابعت خبيرة التجميل: بالعكس والله شكلها كده أحلى وأرق.

أومأت راضية: وانا كماني شايفة إجده.

وفعلًا عندما إنتهت راضية وارتدت الفستان و أكملت كل شيء كانت هيئتها بشعرها الطويل المنسدل على ظهرها مع التاج في قمة الروعة و الرقة فكانت هيئتها كملاكٍ أميرةٍ متوجة.

وحان موعد الزفة ولأن فستان راضية الذي اختارته لها كريمة كان عاري الذراعين فقد اختارت طرحة ثقيلة بعض الشيء ظنًا منها أنها ستخفي شيء.

وعندما غطت وجهها كانت لا ترى إلا خيالات فوضعت إحدى ذراعيها في يد أبيها و الأخرى في يد أخيها ومشيت معهما على هديهما بثقةٍ تامة وكان هذا أشبه بحالها.

فحياتها المقبلة تلك لا ترى فيها إلا خيالات بل ربما لا ترى أي شيء، لكن ماذا لو سارت على هدي أبيها و أخيها فهما يران أنه زوج جيد، لكن هذا في حال اختيارهما له وليس كونه مفروضًا عليهم جميعًا.

وصل الجميع لمكان الفرح وكان في القرية في ساحة كبيرة بين بيوت العائلتين فكل عروس قد أخذها عريسها من يد أبيها.

فسامية استلمها عريسها و رفع الطرحة وقبّل جبهتها وسار بها، بينما علي استلمها وسار بها دون أن يرفع الطرحة ويكشف عن وجهها.

وهذا قد زاد الأمر سوءًا وزاد من وجع راضية، فحتى هذه الليلة لا يحرص على رؤيتها، لا يحاول أن يعرف حتى شكل التي صارت زوجته، نظر أمامه ويبدو شاردًا غير ناظرًا نحوها أبدًا ولم يتفوه بأي كلمة ولا حتى كلمة (مبارك).

إن هذا لأكبر دليل على أنه لازال مكرهًا على هذه الزيجة، لكن كيف هذا وكلها دقائق و سيذهبا لبيتهما معًا؟
كيف لرجلٍ أن يعاشر امرأة مفروضة عليه لا يرغبها تمامًا؟
واضح أنها ستكون حياة مؤلمة ومهينة لأنها لن تكون سوى خادمة و…

كل تلك الأفكار تزاحمت في رأس راضية لكنها قد قررت مع نفسها بأن لن تصير هكذا أبدًا.

وعن بعد كانت كريمة تقف مع عمها صالح، تمتمت كريمة بهمسٍ وغيظ: ماله الراجل دي ما رفعش الطرحة ليه؟ حد يجوله و ينوره!

فأجابها صالح: عشان عِنديه غيرة ونخوة والفستان اللي اختارتيه لبت عمك عريان ومجندل.

– واه يا عمي مش ليلة العمر! حجا يا عمي راضية طالعة كيف البدر! صورتها كام صورة عند الكوافير واتصورت معاها كماني.

– ابجي ابعتيلي الصور دي يا بت.

– من عيني التنين يا عمي.

– مُصلحة إنها متغطية إكده عشان ما تاخدش عين البت ما نجصاش.

– طب ياعمي هروح اجف جارها يمكن تعوزني ف حاجة كده ولا اكده.

ثم قالت في نفسها: صدجتي يا بت عمي، في عريس ما عيحبش يشوف عروسته إلا لو ما عايزهاش و مجبور صوح! الله يصبرك يا بت عمي! حظك اجليل ماختيش منيه غير الجمال و الشطارة.

وماكانت إلا لحظات حتى ذهبت كل عروس مع عريسها تاركين الفرح للمدعويين و ذهبوا لبيوتهم،
فتلك عادتهم في قرى الصعيد يترك العروسان الفرح ويذهبا لبيتهما ثم يدخل العريس بعروسه ثم يعود ويجلس مع الرجال و تذهب بعض المقربات تمكث مع العروس.

حمل علي راضية وصعد بها وهي ترتجف خوفًا بين يديه وخلفه أمه و كريمة يتابعانهما بالزغاريد فأدخلها الغرفة ونادى عليه أخويه يريدان التحدث إليه الآن فدخلت حماتها وكريمة و منال و أسماء.

كانت راضية جالسة على السرير دون حراك كما وضعها على فرفعت حُسنى الطرحة من على وجهها وأخذت تزرغد كثيرًا قائلة: الله أكبر الله أكبر! بدر مصور والله! من شر حاسد إذا حسد، الله أكبر.

وتعاود الزغاريد مرة أخرى حتى جاء علي فغطت وجهها مجددًا وخرج الجميع من الغرفة ولم يبقى سوى العروسين.

جلس كلًا منهما على حافتي السرير معطيًا للآخر ظهره، وكان قد زاد قلق وتوتر راضية أضعافًا فكيف لذلك الغريب أن يقترب منها بل ويعاشرها معاشرة الأزواج وهو حتى لم يتحدث إليها حتى الآن، ولم ينظر إليها حتى الآن، والآن تركها هكذا دون أي كلمة أو موقف يبشر بخير.

أما هو فلم يكن يرى أمامه سوى صورة تلك الجميلة التي عشقها وحُفرت ملامحها في قلبه فلم ينساها ولم يستطع رؤية أي امرأة أخرى فكيف يقربها؟

ومضت ساعة بل وأكثر في ذلك الصمت القاتل و لا أحد يتحرك كأن على رؤسهما الطير.

حتى قطع هذا الصمت صوت طرق الباب ونداءات حُسنى: يا علي، يا علي، خلصت يا ولدي!

فأفاق علي فجأة وقال: هه! نعم يا مي.

– يلا يا ولدي الرجالة عايزينك تحت.

– طب روحي دلجيتي يا مي.

فلم يجد بدًا و اضطر للقيام، اقترب نحوها ناظرًا إليها ولا يزال وجهها مغطىً بالطرحة حتى الآن فانحنى نحوها وأمسك بالطرحة ورفعها.

وفجأة!
صُعق مما رأى؛ لقد اهتز وهبط جاثيًا على ركبتيه أمامها يتأملها ولا يصدق ما يرى.

فتارةً يفرك عينيه وتارةً يغمضها ثم يفتحها ثانيًا؛ إنها هي التي مرض بحبها و صار عشقها يجري في دمه، أم قد أصابه الجنون ومسه الجان فيرى وجهها فيمن أمامه.

ظل هكذا ينظر إليها و تحول إحساسه فجأة من قمة التعاسة إلى قمة السعادة.

لم تكن راضية قد رفعت بنظرها إليه طوال هذا الوقت، فربما لو نظرت إليه لرأت هذه السعادة و ذلك العشق والشوق على وجهه، ثم أمسك بيديها المثلجتين التي تفركهما في بعضهما البعض من شدة توترها.

لكن ما أن لمس يديها حتى سحبتها فجأة وانتفضت واقفة متراجعة بخطواتٍ للخلف……………..

 

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة الان