رواية “بعد الليل ” الفصل الثامن والتاسع عشر للأديبة نهال عبد الواحد

الفصل الثامن عشر

 

خرج شريف من بيته متجهًا إلى السوق بعد أن أملته أمه طلباتها في ورقة كتبها بخط يده.

وصل إلى السوق إلى دكانة منصور بائع الطيور وكان يعرفه، فما أن رآه حتى هشّ له و بشّ و أحسن استقباله: يا مُرحب يا مُرحب بالأستاذ شَريف، نورتنا والله! الشاي يااض، إتفضل إتفضل.

فابتسم شريف وجلس وهو يقول له ضاحكًا: كل دي استجبال دي ولا استجبال رئيس الوزرا!

فقهقها الرجلان ثم تابع شريف: دلجيتي الحاجة بعتاني بشوية طلبات و جالتلي على بنتة جاعدة إهني عارفة طلبها زين، إسمها.. إسمها…  يا وجعتك يا شَريف!

فأسرع منصور بالإجابة قائلًا: كنّك تجصد جمر!

فزم حاجبيه قائلًا: كنّها هي.

فنادى منصور على قمر: يا جمر، يا جمر، همي يا بت!

فنهضت قمر من مجلسها ببعض الصعوبة فلازال هناك آلام بجسدها من أثر ارتطامها بالدرج، اتجهت نحو منصور بوجهها الملثّم: ايوة يا عمي منصور.

فأجاب مشيرًا لشريف: شوفي طلبات الأستاذ، حضرته يبجى ابن الحاجة أم شريف .

فالتفتت إليه ثم أخفضت بصرها مسرعة بشكل لاحظه شريف، وتحدثت و عينها تنظر أرضًا وفي صوتها اهتزاز وارتعاش واضح: يا مُرحب يا أستاذ، إزي ست الحاجة كيفها؟ إن شا الله تكون بخير!

_ حجيجةً هي تعبانة شوية من عشية، حتى اخدت أجازة إنهاردة عشان أكون مطّمَّن عليها.

فضربت قمر صدرها وصاحت بصدمة: يا مري!  تعبانة! لا حول ولا جوة إلا بالله! طب هي كيفها؟ راحت تكشف يعني ولا إيه؟ سايج عليك النبي تطمني الله يستر عليك!

ثم التفتت نحو بضاعتها وعادت من التفاتتها إليه بسرعة تكمل: ولا أجولك، أنا إنهاردة عخلِص بدري، عبال ما اجهز حاجة الحاجة أكون خلصت الشوية اللي معاي، ما تواخذنيش يعني لو ينفع آجي معاك أشج عليها و اطمَّن.

فابتسم شريف من لهفتها و أومأ لها أن نعم قائلًا: طيب.

ثم اتجهت قمر لتنجز ما تبقى و جلس شريف أمام محل منصور الذي لم يتوقف عن الكلام لحظة واحدة.

أما قمر فكانت جالسة وتسترق النظر نحو شريف من حينٍ لآخر فتجده هو الآخر يلتفت نحوها، فتخفض بصرها وتتابع ما تفعله ثم بعد قليل تعاود الكَرّة من جديد.

وأخيرًا انتهت قمر من بضاعتها ومن طلبات نرجس، نهضت واقفة واتجهت نحو شريف قائلة بصوتٍ أكثر ارتباكًا: أنا جاهزة يا أستاذ.

فنهض شريف واقفًا مادًّا يده ليمسك ما تحمله قمر و هو يقول: عنّك.

فتجيب على استحياء: ما يصحش يا أستاذ.

_ إيه هو اللي ما يصحش! عتمشي جاري إنتِ شايلة وأنا ماشي إكده إيه! خيال مآتة أنا!

_ لا العفو يا أستاذ.

فتدخل منصور قائلًا: إسمعي الكلام يا جمر، إدي الحاجة للأستاذ، و لما العربيات تاجي عتصل بالحاجة عشان تاجي تركبي، تمام.

فأجابت: تمام، إتفضل يا أستاذ.

قالت الأخيرة بقلة حيلة وهي تمد يدها بما تحمله، فحمل عنها شريف و سار بضع خطوات و هي تسير جواره على استحياء، ولا تفهم ماذا دهاها! حتى لسان حالها لازال مرتبكًا متخبطًا يهمس بداخلها:

ضربات قلبها متسارعة، أنفــاسهـا متلاحقـــة، تتلفــت حولــهــا بنظراتٍ متتالية متتابعة، كأن الجميع يسمعها! بل إنهم لضربات قلبها يعدون و يحسبون ليتها تعلم ماذا دهاها! أ لسحر كلماته لازال التأثير مستمرًا؟ أم هيبة طلعته هي التأثير؟ أم شيءٌ آخر خفيٌّ و عسير؟ إهدأ يا قلب كفاك ملاحقة، فأنا من الأمل و الرجاء خالية، فقد ضاع مني عمري وأحلامـي البـاقيـة.

كان كلٌ منهما ينظر للآخر بطرف عينيه ولا يدري سر هذا الفضول والذي يوشك أن يصل لانجذابٍ فجائي!

وصل كلاهما للبيت و دلفا معًا، أسرعت أمامه بشكلٍ أدهشه؛ فكأن البيت بيتها!  و إتجهت ناحية المطبخ وضعت الأكياس مسرعة و قبل أن يصل شريف خلفها كانت اتجهت إلى الحمام و غسلت يديها و وجهها جيدًا ثم جففت وجهها بطرف حجابها و خرجت، فكان شريف أمامها، والذي وجم عندما رأي وجهها، حتى إنه على أغلب الظن لم تطرف عينيه!

ظلا هكذا بعض الوقت ثم أشارت له مستأذنة أن تدخل لأمه فتنحّي جانبًا و لازالت عيناه تتبعاها! يهمس بداخله:

تُرى ماذا حَلّ بي؟!
أهو تأثير هذا الجمال النادر؟!
أم كأن في عينيها ساحر؟!
تسحب الروح و تتحكم بها
و تتلاعب بها و تتقاذفها
هل أنتِ بشرية مثلنا و إنسية؟
أم أنكِ حورية
من حور الجنة العليّة؟
أم أنتِ من تحت الأرض جِنّيّة؟
وا رأساه!
تُرى، أي ريحٍ أتت بكِ إليّ؟
بل قل وا قلباه!
أجل وا قلباه!

هكذا كان يحدّث نفسه دون وعيٍ منه ماذا ألمّ به على غفلة!

أما قمر فأسرعت متجهة لنرجس والتي بمجرد رؤيتها نهضت جالسة وكأنما هي طبيبها ووجودها وحده دواءها! فصاحت قمر بلهفة:

_ ألف سلامة عليكِ يا ست الحاجة! والله انخلعت عليكِ!

_ ده انا اللي انخلعت عليكِ يا بنيتي لما ما جيتيش عشية، طمنيني عليكِ، إنتِ زينة!

_ نحمد الله، المهم إنتِ، أجصد حضرتك.

_ مالك من ساعة ما دخلتي وانتِ عتجولي حضرتك و ست الحاجة ! أمال فين كلمة يامّي اللي بتخرج من خشمك زي العسل؟! كنّك زهدتي منيها!

_ لا والله! بس سي الأستاذ ولدك إهني و أخاف يضاَيج م جولتها.

_ ما تشغليش بالك بشَريف ولدي، تلاجيه دخل أوضته يحضر دروس ولا يكتب اللي عيكتبه دي.

_ طب عروح أنا أخلص اللي أجدر عليه و أجهز الغدا جبل ما الوجت يسرجنا.

ثم نهضت واتجهت نحو المطبخ، بدأت بإعداد الغداء ثم اتجهت تنظف ما تستطيع فعله ثم تعود للمطبخ من جديد.

كانت تعمل مسرعة؛ تحاول أن تنجز أكثر الأشياء في أقل وقت ممكن دون أن تعبأ بأي آلام تعاني منها.

ثم دخلت إلى المطبخ و قد أنهت كل شيء، فوضعت يدها في جيبها و أخرجت قرص دوائي و همّت أن تتناوله ليفاجئها صوت شريف من خلفها: بتعملي إيه! إيه اللي عتاخديه دي!

ففزعت فجأة و سقط كوب الماء من يدها منكسرًا على الأرض فازدادت هلعًا و إنحنت مسرعة لتجمع الزجاج باندفاع فجُرحت يدها، وكانت تبكي بشدة خوفًا ولم تستطع أن تنهض فجثت على ركبتيها تكمل بكاءها!

إندهش شريف من ردة فعلها أحضر المكنسة اليدوية وجمع هذا الزجاج المتكسر و أزاله تمامًا و هو يتسآل: إيه اللي حُصُل عشان تتخلعي كد اكده؟!

ثم انحني جوارها يتفقد يدها المجروحة وأكمل بضيق: عجبك إكده!

ثم نهض و هو يقول: همي جومي م الأرض يلا، تعالي برة أطهِرلك جرحك دي.

فهمّت لتنهض لكنها لم تقوي على النهوض؛ فألم الجسد لا يظهر طوال الجهد مهما كان وبمجرد أن تسكن و لو للحظات أتحداك إن نهضت من مكانك بسهولة!

فازداد بكاءها، فانحنى متسآلًا مرة أخرى: مالك بس، عتبكي ليه؟ جومي يا بت الناس الله يهديكِ!

فأجابت بصوتٍ يخالطه البكاء: ماجدراش، أصلي وجعت من فوج السلم على ضهري و أول ما جعدت ما جدراش أجوم تاني…

وتابعت بكاءها، فزفر شريف بضيق ثم أمسك بساعديها على فجأة يعاونها على النهوض واقفة.

كانت ترتعش بين يديه من مسكته هذه وقد شعر برجفتها تلك لدرجة زادت من انجذابه نحوها، ثم خرج بها من المطبخ و عيناه لا يبعدهما من عليها، لدرجة لو تعثر بأي شيء لن يشعر إلا عندما يسقط بها أرضًا!

أجلسها على أقرب كرسي واتجه يحضر صندوق الإسعافات، وقد خرجت نرجس على أثر صوت الكوب الذي سقط و تكسّر، وما أن رأتها قمر حتى ازدادت بكاءً، فاتجهت نحوها نرجس تحدثها بحنان: مالك يا جمر! إيه اللي حُصُل؟!

فأجابت وهي تنتحب بكاءً: الكوباية وجعت من يدي انكسرت، أنا آسفة والله ما كت أجصد!

فربتت عليها قائلة: فداكِ يا حبيبتي، ماجراش حاجة.

فخرج شريف بصندوق الإسعاف في تعجب متسآلًا: هو إيه اللي بناتكم بالضبط، إنتِ ولما ما جاتش عشية انخلعتي عليها وتعبتي و ضغطك عِلي، و هي تعبانة وما جدراش تتحرك و برضو جيّاكي تجري!

فأجابت نرجس: واه يا ولدي! كنّك مستكتر محبتنا لبعضنا!

فأجاب مبتسمًا: لا طبعًا، بس مستغرِب، مدي يدك يلا خليني أطهِّر جرحك.

فمدّت يدها واقترب شريف، كان يجاهد نفسه أن يمضي في جرح يدها فقط، لكن ذلك القرب المهلك ماذا يفعل فيه؟!

لكنه لم يملك الشجاعة بعد ليرفع عينيه إلى وجهها؛ فقد حفظه عن ظهر قلب وليس بحاجة لرؤيته مجددًا….

لا لا بل هذا الوجه لا يمكن أن يُمَلّ من النظر إليه!

وأخيرًا انتهى شريف من تطهير هذا الجرح، رغم كونه مجرد جرح سطحي لكنه كان يشعر أنه قد استغرق مزيدًا من الوقت، لكن في نفس الوقت لا يرغب في أن يبتعد.

تراه يقول في نفسه لقد أصابك المس والجنون اليوم يا شَريف!

لكنه انتبه لسؤال أمه: مرت أخوكي ليها علاجة بوجوعك دي!

فسكتت قمر بعض الوقت وهي تفرك يديها بعضهما لبعض، ثم أجابت: خلاص، منوش فايدة الحديت دي.

فأجابت بحنق: منيها لله المرة السو دي، صحيح العيار ما يخلعش عينها!

فأجابت قمر بهدوء: خلاص تعبت منيها، الله يسامحها بجى!

وبمجرد قولتها هذه فجأة التفت إليها شريف في عجالة قائلًا….

…………………

 

 

الفصل التاسع عشر

التفت شريف فجأة لقمر عقب قولتها مباشرةً و قال في عجالة: إنتِ إسمك جمر إيه؟

فارتبكت وأجابت بتردد: ليه يا أستاذ؟!

_ مالك خفتي ليه؟ كل الحكاية عشبه عليكِ؛ كنّي شوفتك جبل سابج!

_ وأنا كماني بشبه على حضرتك!

فابتسم قائلًا: يبجى مش معجول عن شبه على بعضنا إحنا التنين و ما نكونش شفنا بعضنا جبل سابج!

فنظرت بينهما أمه ثم تسآلت: هو إيه دي اللي شوفنا بعض و ما شوفناش بعض!

فاتسعت إبتسامته قائلًا: يُبجى إنتِ جمر المنصوري، صُح!

فوجمت قليلًا ثم تسآلت: بس يعني، حضرتك عرِفت إسمي كيف؟!

_ يُبجى إنتِ مش فاكراني!

_ فاكرة إني شوفت حضرتك جبل سابج، لكن ما فاكراش فين ولا ميتى؟!

فقهقه ضاحكًا ثم أردف:  من ياجي سنتين تلاتة كُتي جاية هنا ف مركز أبو تيج عشان مسابجة أوائل الطلبة…

فقاطعته قائلة بابتسامة ساحرة و يبدو أنها قد تذكرت: أيوة أيوة، حضرتك كُت مدرس موجود تبع المدرسة التانية!

كان يتأمل تقاسيم وجهها عندما تشقه ابتسامتها من وسط المعاناة و الألم الملازمة لملامحها، ثم أخفض بصره قليلًا و أعاد رفعه إليها قائلًا: حقيقةً انبهرت بإجاباتك وأسلوب شرحك وكِيف بتشرحي مواطن الجمال بطريجة رائعة و مختلفة، مش مجرد طالبة حافظة وبس، لا دي فاهمة و ليها وجهة نظر كماني، و رغم إني اتغاظت م الطالبات اللي واجع جلبي في الشرح معاهم و كانت في الآخر إجابتهم عادية، لكن دي ما منعنيش إني أعبِرلِك عن إعجابي بيكِ، أجصد بإجاباتك ومستواكِ الدراسي.

كان يتحدث  وينبعث من عينيه كل معاني الإعجاب و ربما أشياء أخرى قد التقطها الردار الخاص بأمه نرجس و قد تهللت أساريرها لذلك.

ثم تسآل شريف: لكن كيف اتخليتي عن علامك و روحتي تشتغلي بياعة ف السوج؟

_ هو الشغل عيب ولا إيه؟!
قالتها بمرارة حاولت إخفاءها خلف ثبوتها وعزة نفسها.

فأجاب متراجعًا: لا والله مااجصدش! لكن المستوى دي يتوقع له يكون مستجبله حاجة تانية خالص.

فتنهدت بحزن ثم قالت: أبوي إتوفى و أخوي إتحجج إن مصاريف العلام فوج طاجته جعدني وجوزني لأول واحد إتجدم.

فتبدلت ملامحه و تشنجت فجأة وهو يتسآل بحدة مفاجِئة لم يتمكن من السيطرة عليها: يعني إنتِ متجوزة؟!

فأومأت برأسها أن لا قائلة: كُت و اتطلجت رمضان اللي عدّى.

فانبسطت ملامحه من جديد و تنفس براحة واضحة و تسآل: و خوكي فين من كل دي؟!

فتنهدت مرة أخرى بحزنٍ شديد: مسافر عيشتِغِل ف السعودية ومرته معايّ ف البيت و سجياني المرّ كاسات.

فتسآل ببعض الغضب: وفين باجي أهلك؟ عمامك فين؟

وهمّت قمر بالإجابة…  لكن قاطعت حديثها نرجس قائلة: هو المحضر دي ما عيخلصش ف سنته! ما أنا حكيالك كل حاجة من أول يوم جت فيه البنية إهني!

_ ما فاكرش حاجة والله يامّي!

_ ما فاكرش برضو! كنّك ما كُتش مديني ودنك!

فضحك وضحكت نرجس بينما نظرت قمر للأسفل في استحياء و هي تفرك يديها بعضهما ببعض، فتابعت: عجوم أجهّزلكم الغدا جبل ماامشي.

فصاحت نرجس: ويمين الله ماانتِ ماشية غير لما تاكلي ويانا.

فقالت: ليه الحلفان بس يا ست الحاجة؟! ما عايزاش أتأخِّر عشان ألحِج العربيات المعاودة البلد عندينا.

فأجابت: عخلي شَريف يوصِّلِك للموجف، وبلاش ست الحاجة دي.

فأومأت برأسها أن نعم و همّت لتنهض فتأوهت قليلًا فلاحظها شريف فابتسم متسآلًا: نفسي أعرِف سر حبكم دي!

فضحكت نرجس وابتسمت قمر بخجل بصورة يصعب عليه أن يرفع عينه من عليها فظلّ محملقًا فيها، ثم أخفض بصره قليلًا ثم رفعه مرة أخرى وتسآل بمزاح: طب أمي و إنتِ دخلتي جلبها…
قالها بنبرة صوت قد حادت منه ربما بدت تفضح عن مكنون داخلي.

و أكمل: طب إنتِ كيف إتحملتي أمي وطلباتها و أوامرها اللي ما عتنتهيش؟!

فصاحت فيه أمه: بجِي إكده! ماشي يا شَريف!

فاقترب مقبلًا رأسها قائلًا: والله عهزِّر يامّي! كله إلا زعلك يا ست الكل.

فابتسمت قمر قائلة: والله أمي الحاجة طيبة وأميرة  ووالله طلباتها على جلبي أحسن م العسل!

ثم قالت بأسف وحسرة: أصلكم ما عاشرتوش فوزية، حماتي الله يصلح حالها!

فتابع شريف قائلًا بتأكيد: جصدك اللي كانَت حماتك.

فأومأت برأسها أن نعم، ثم قالت وقد نهضت واقفة: عجهز الغدا عشان ماعوّجش أكتر من إكده.

واتجهت نحو المطبخ و تابعها شريف بعينيه وتابعت الموقف كله نرجس وقد اتسعت ابتسامتها.

أعدت قمر الغداء وتناولت معهما بضع لقيمات بعد إلحاحٍ من نرجس، وساد الصمت بين الجميع، فقمر تشعر بثمة عيون تراقبها، أما شريف فيشعر أن صوت ضربات قلبه عالية لدرجة تشق هذا الصمت.

انتهوا من الغداء و رتبت قمر المطبخ مسرعة لتعاود أدراجها لقريتها قبل المغيب.

سلمت على نرجس قائلة: خلي بالك من نفسك و إن شاء الله منين مااخلِّص بيعتي آجي و أشوف طلباتك لحد يوم الحد إن شاء الله.

فربتت عليها قائلة: تعيشي يا بتي .

فتدخل شريف: ما فاهمش برضو ليه ما كملتيش علامك مادام اطلجتي وجاعدة، أجليه تشتغلي شغلانة أحسن من إكده.

فأجابت بخجل: وانا ععمل إيه يا أستاذ؟! أنا سايبة المدرسة بجالي سنتين؛ أنا ما كملتش سنتين جواز!

حاول شريف ضبط انفعاله قائلًا: بغض النظر، تجدري ترجعي و تمتحني السنة دي كماني.

فاتسعت ابتسامتها: بجد يا أستاذ!

أعجبه ردة فعلها العفوية هذه، و تابع بأسلوب أكثر هدوءًا: عتاجي معايا المنطجة التعليمية ونعملك إعادة قيد و تجهّزي صور وتكتبي شوية بيانات، عسأل عل إجراءات بالضبط وأبلِّغِك ععدي عليكِ ف السوج واتفج معاكِ نروح سوا، إتفجنا!

فأومأت برأسها أن نعم بسعادة شديدة: إتفجنا يا أستاذ، الله يبارك فيك و يوسِّع عليك يا جادر  يا كريم.

و سحبت طرف حجابها لتغطي وجهها، ثم غادرت بصحبة شريف، كانا يسيران متجاوران تفصلهما مسافة ليست قصيرة، لكن كلًا منهما يطرف بعينه نحو الآخر، لا يعرفان سر هذا التجاذب الفجائي، لكن المؤكد أن كلًا منهما متأكدًا أن هذا انطباعه وحده وليس انطباعًا متبادلًا.

وصّلها شريف حتى موقف السيارات، ركبت وقام بدفع أجرتها للسائق رغم رفضها المتكرر؛ لكنها عاداتهم لا فصال فيها، لكن قد شكرته في النهاية.

لكن شريف لم يتمهل و ركب السيارة التي خلفها وظلّ خلفها ليطمئن عليها، هو لا يفهم نفسه اليوم ولا سر تصرفاته ولا هذا التحول ولا تلك المشاعر التي تجتاحه دون استئذان ولا مقدمات، حولته فجأة من شخص راشد عاقل لشخص مراهق تحرّكه انفعالاته ومشاعره!

أما قمر فبمجرد انصرافه عنها شعرت أنها قد تمكنت أخيرًا من التنفس بصورة طبيعية؛ فقد كانت تشعر أن أنفاسها متلاحقة بلا ركض، لكن قلبها لم يتوقف عن ذلك النبض السريع، بمجرد انصرافه تمنت عودته و كأنما اشتاقت له في نفس اللحظة، كانت تغمض عينيها، تتذكر ملامح وجهه الرجولي وكل تقاسيمها و هيئته كلما غضب، احتد، ابتسم أو تسآل، كانت تود لو لم تنزل عينيها من عليه لكن ذلك الخجل الذي يقتحمها فيجعلها تسارع بإبعاد ناظريها، فتخفض رأسها و تبتسم.

وصلت السيارة إلى قريتها، هبطت منها، سارت نحو بيتها ولازالت على حالها، لا تدري لماذا كانت تتلفت من حينٍ لآخر!
لا تدري لماذا ترى وجهه في كل الوجوه!
يبدو أن فرحة عودتها للدراسة قد أذهبت عقلها!
هكذا تقنع نفسها.

أما هو فقد كان بالفعل يتبعها وقد إندهش من كثرة التفاتاتها وخشى أن تراه يتبعها لكنها بالفعل لم تراه، أو ربما رأته لكن كذّبت نفسها.

تأكد من عودتها ودخولها لبيتها ثم عاد بأدراجه لقريته من جديد لكن يشعر وكأن هناك ما ضاع منه، أحاسيس كثيرة تهاجمه لم يعهدها ولم يجد لها تفسير بل إنه حتى لم يعرف معناها.

عاد و سلّم على أمه، اطمأن على صحتها واتجه مسرعًا لغرفته في حالة قرأتها أمه بسهولة وابتسمت متمنية في نفسها شيئًا، رفعت بصرها للسماء تدعو به بصمت.

أما هو فبدّل ملابسه و جلس على مكتبه يكتب كلماتٍ منمقة….

خاطرة جديدة…

( مَنْ هِيَ؟!)

لَا تَسْأَلَنِــي مَنْ هِـيَ
ذَاتَ العُيُونِ اللَّوْزِيَّة
والبَشَــرَةُ الخَمْرِيَّــة
ووَجْنَتَيْهَـــا وَرْدِيَّــة
تَصْدِرُ أَنْغَامَاً شِعْرِيَّة
تَعْزِفُ أَلْحَانَاً شَرْقِيَّة
شَامِخَةٌ بِرَأْسِهَا دَوْمًا
تَنْأَى بِرَوْحِهَـا بَعِيــدًا
ولَا تَسْتَسْلِـمُ لِلْغَالِبِيَّة
قَالُوا عَنْهَا الحَسْنَاءُ المَغْرُورَة
قَالَتْ لَا يَهِمُّ فَأَنَا فَتَاةٌ شَرْقِيَّة
الغُـرُورُ و الشُّمُـوخٌ يَلِيـقُ بِـي
لَـنْ تَهْزِمَنِي كَلِمَاتُ مَنْ حَولِي
و مَهْمَـا عَـوُوا سَأَظَـلُّ قَوِيَّــة
أَمْضِـي و أَبْتَسِـمُ بِسُخْـرِيَّـــة
وأَظَـلُّ أَعْزِفُ وأُغَنِي بِحُرِيَّـة
لَنْ تَحْجُرُوا عَلَيّ فَلِحَيَاتِي رَاضِيَة
ولَنْ تَحْبِطُونِي فَمَنَاعَتِي ضِدَكُم عَفِيَّة

ثم وقع بإسمه (شريف فوّاز)

…………………………….

 

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة الان