رواية ” العوض الجميل ” الفصول من الخامس إلى الثامن للأديبة نهال عبد الواحد

الفصل الخامس

شعرت شفق أنها تعيش أحلى أيام حياتها التي لم تكن تحلم بها حيث شعرت بأمومتها تجاه شفق الطفلة حتى وإن كان ما تقضيه معها مجرد ساعات قليلة والطفلة كذلك شعرت بأن شفق هي العوض الجميل عن أمها المفقودة فكل منهما عوض للأخري.

وتشعر بحنان هالة الأم الذي افتقدته وهي تعاملها كإبنتها التي افتقدتها فصارت فكلًا منهما عوضٍ للأخرى.

وذات يوم بينما شفق داخلة إلى الفيلا كعادتها إذا بصوتٍ رجولي يستوقفها فالتفتت ناحية مصدر الصوت فإذا به شاب طويل وعريض له ملامح وسيمة نوعًا مرتديًا ملابس بسيطة، نظارة شمسية وقبعة ممسكًا في يده أداة لا تعرفها يبدو أنها تستخدم في تقليم الزرع.

صاح الشاب: إنتِ يا اللي داخلة! هي وكالة من غير بواب! رايحة فين كده؟

انتفضت شفق وأجابت بفجأة: شكلك جديد هنا ولا إيه!

– إنتِ هتردي ع السؤال بسؤال!

– حضرتك إحنا شغالين ف مكان واحد يعني زملا ما يصحش طريقتك دي.

– زملا!

– مش حضرتك الجنايني الجديد؟

– جنايني!

– بعتذر لحضرتك، المسؤول عن الجنينة والزرع، حلو كده!

– وتطلعي مين حضرتك؟

– أنا التيتشر بتاعة شفق.

– دادة يعني.

سكتت قليلًا ثم ابتلعت ريقها متحدثة بهدوء: على فكرة كلمة جنايني كانت غير مقصودة وأنا اعتذرت عليها.

– وجعتك أوي إنك الدادة بتاعتها!

فقالت ولا تزال تحافظ على هدوءها: على فكرة أنا مايهمنيش رأي اللي حوالي في أو ف حاجة بعملها ما دمت مقتنعة بيها ومش غلط، كون حضرتك شايفني دادة فده ما يهمنيش عادي جدًا، عل إذنك.

ودخلت تركته مستشاطًا غضبًا.

وفي يوم آخر بينما تدخل شفق الفيلا فإذا بنفس الصوت: متأخرة يعني إنهاردة!

– معلش المواصلات زحمة.

– مواصلات! ليه ما عندكيش عربية؟

– لا للأسف، ربنا يبعت!

وكانت شفق تتحدث إليه متلفتة في كل اتجاه لا تنظر إليه كعادتها عندما تحادث الرجال وإن كان غير واضح خلف النظارة الشمسية لكن من يدقق بشدة ربما يلاحظ ذلك.

إنتِ إيه! ما عندكيش ذوق!

شهقت شفق بصدمة: نعم!

– ما تعرفيش إن من الذوق وإنتِ بتكلمي حد تبصيله ف وشه وتبقى عينك في عينيه.

– بس مش من الحياء ولا الدين إني أبحلق في وش راجل غريب.

– ليه؟ مش بتقولي زملا!

– غريب بمعنى مش محرم لي، وبعدين النضارة دي مش مبينة حاجة، خت بالك إزاي؟!

– خت بالي وخلاص.

-طيب.

قالتها وهمت بالدخول، فناداها الشاب مجددًا: يا ميس شفق!

أجابت شفق بتأفف: أفندم! بحسبك خلصت خناق.

وكاد أن يبتسم ثم قال: إنتِ عمرك ما سألتيني عن إسمي!

– على فكرة لو كنت سيبتها أعتقد كان هيبقى ألطف كتير.

– هي إيه دي؟

– الابتسامة اللي كانت ناوية تطلع وكبستها زي ما بتكبسني على طول، ده حتى التبسم صدقة وهتاخد عليها ثواب، حاجة لوجه الله يعني.

– أنا برضو اللي بكبسك! أمال انت إيه! وختي بالك كمان إني كنت هبتسم!

قال الأخيرة بمكر فتابعت بارتباك: بدون قصد يعني، عل إذنك.

– إنتِ مستعجلة كده ليه؟

– عشان الوقفة معاك هنا تضييع وقت ومالهاش معنى، عل إذنك.

– بس إنتِ لسه ماعرفتيش إسمي.

– إتفضل.

نبست من بين أسنانها على مضض، فقال الشاب: وليد.

ابتسمت بتكلف قائلة: أهلًا وسهلًا، عل إذنك.

وانصرفت فقال: عاملة زي القطر بالظبط تمشي طوالي وخلاص.

وفي يوم آخر واستوقفها كالعادة صوت وليد: هو إنتِ لازم تبصي أدامك وإنتِ ماشية!

انتفضت شفق مفزوعة ثم تلاقطت أنفاسها وقالت بصوتٍ مرتعش: بسم الله الرحمن الرحيم، إنت بتطلع منين؟ الناس بتقول صباح الخير ولا أي تحية مناسبة، مش تكبس كده.

– ما ردتيش يعني!

أومأت شفق بتأفف عاقدة ساعديها أمام صدرها: نعم، إتفضل اتخانئ يلا.

فتأفف وقال: باشوفك بتبصي أدامك على طول وإنتِ ماشية.

تابعت شفق بفرغ صبر : هو في طريقة تانية للمشي! مش فاهمة!

– يعني اتعودت الناس تدور عليّ، إنتِ إيه بأه يعني مثلًا مابتدوريش عليّ وإنتِ داخلة!

– أدور عليك!

فضحكت فنظر إليها وليد واجمًا ثم قال: هو أنا قُلت نكتة!

– آسفة مش قصدي، بس هدور عليك ليه؟

– يعني تشوفيني مثلًا؟

– شكلك يا إما بتجر شكلي يا إما مغرور!

– مش قُلتي إننا زملا! يعني تدوري عليّ وتسلمي وتطمني كمان.

– واضح إنك بتحب تضييع الوقت زي عينيك بجانب حبك للمناقرة والخناق.

– بأه أنا بحب تضييع الوقت!

– طب في حاجة تانية لسه ما قولتهاش؟

– أنا غلطان إني باخد وأدي معاكِ ف الكلام.

– يارب تخلّص إنهاردة! دماغي فيها اللي مكفيها.

– بتفكري ف إيه يعني؟

فقالت بوجه مشرق وباسم: دلوقتي بفكر في شفق حبيبة قلبي اللي بتوحشني من سواد الليل، متهيألي لو عندي بنت مش هحبها كده، بفكر في ماما هالة وأد إيه مستنياني ووحشاني ووحشاها أوي من الأسبوع للأسبوع.

– ماما هالة!

– أصلنا ارتاحنا لبعض وحبينا بعض أوي، لدرجة إننا حاسينا ناحية بعض إننا أم وبنتها، مع حفظ المقامات طبعًا، فطلبت مني أقولها ياماما، وكأني ما صدقت.

فنظر إليها عاقدًا حاجبيه ثم قال: وإنتِ مامتك فين أمال؟

فتبدل وجهها تمامًا بشكلٍ ملحوظ: الله يرحمها ماتت هي وبابا ف حادثة عربية.

وانهمرت دموعها فجأة بغزارة دون سابق إنذار فأحزنه ذلك وندم على هذا السؤال وود لو لم يسأله.

فقال بضيق: أنا كنت بسأل مجرد سؤال، خلاص خلاص.

لكنها لم تتوقف وكأن الدموع كانت واقفة خلف باب عينيها وفُتح هذا الباب وانتهزت هذه الفرصة وتساقطت شلالات دون توقف.

فأخرج منديلًا من جيبه وجذب النظارة الشمسية ليمسح دمعها فرمقته بفجأة لجرأته.

كان لشفق عينين عسليتين عندما تُرى في ضوء النهار وخاصةً في ضوء الشمس يتبدل لونهما …
ويا ويل من ينظر وقتها لهما!

وجم وليد قليلًا عندما رآها ثم همس بلهجة مختلفة: إيه العينين دي!

فصدمت شفق أكثر من قولته تلك فخطفت نظارتها واختفت من أمامه راكضة بمزيجٍ من الحرج والغضب.

وبعد أن انصرفت قال محدثًا نفسه: إيه الهباب اللي هببته ده! بأه هي بتعيط لما افتكرت أهلها اللي ف حادثة وأنا بقول إيه!
لا بس العيون دي جامدة! هو في كده! أتاريها لابسة نضارة شمس على طول وما بترفعهمش ف وش حد، طبعًا كان زمان ضحايا العيون دول بالكوم.

(الفصل السادس)

وذات يوم بينما كانت شفق تدخل إلى الفيلا ولم يكن موجودًا فوقفت قليلًا في مكانها دون أن تلتفت ثم أكملت سيرها إلى الداخل وكان وليد يتابعها عن بُعد.

دخلت شفق وأكملت يومها مع شفق الطفلة كما جلست مع هالة لكن كان عقلها مزدحمًا بالأفكار.

ماذا دهاكِ ياشفق؟ لم تبدين هكذا؟
توقفي! ما تأملي به هو حلم بعيد المنال.
هل نسيتِ حقيقتك؟ حقيقتك التي لن يقبل بها أحد.
إن الناس لا يشغلهم إلا المظاهر فلن يهتموا إطلاقًا بعملك ولا إلى ما وصلتِ إليه.
لو علم الحقيقة التي عشتِ عمرك تخفينها عن الجميع! لم تصادقي أحدًا حتى لا يتقرب إليكِ ويكتشف الحقيقة، فليس كل الناس مثل هالة.
لكن ماذا عن علاقة وارتباط؟ لا يمكن إخفاء حقائق فيها، تُرى هل سيقبلها؟
وإن قبلها وود الذهاب لرؤية ذلك المكان الذي يزداد توحشًا وفسادًا،
تلك المنطقة التي هرب منها معظم سكانها ولم يتبقى سوى فئة أكثرهم منحرفين ومتعاطي المخدرات، وإن جاء وسأل عني فسيسمع أقبح الكلمات.
إنهم لم يكفوا يومًا منذ وفاة والدايّ عن إيذائي ورمييّ بأفظع التهم والمسميات.
وماذا عن أخيكِ أيضًا؟!
هيا انفضي كل ذلك ولا تتطلعي إلى ما لا تستطيعين تحقيقه.

كانت ممسكة كتابًا في يدها وشاردة هكذا وجالسة في الحديقة فإذا بوليدٍ يجئ على فجأة ويخطف الكتاب فأفزعها من مكانها وقبل أن تتلاقط أنفاسها كان يتصفح في الكتاب ثم قال: بتقري إيه؟إيه! فن اللامبالاة! وإنتِ ناقصة لا مبالاة؟! دي البعيدة لوح تلج ما بيتهزش… إيه!
وقرأ…..

«إذا انتابك شعور سيء تجاه نفسك ولو مدة خمس دقائق فإنك تجد نفسك على الفور أمام مئات الصور لأشخاص سعداء تمامًا يعيشون حياة مدهشة إلى أقصى حد ويصير مستحيل أن ترد عن نفسك الإحساس بأن فيك بالتأكيد أشياء غير صحيحة حتى يكون وضعك أقل منهم،
هذا ما يجعل عدم إكتراثك بأن يكون لديك شعور سيء تجاه نفسك وتجد أنك قد توقفت عن كره نفسك إن الرغبة في المزيد من التجارب الإيجابية هو تجربة سلبية.
كلما كنت شديد الرغبة في أن تكون ثريًا كلما شعرت بأنك فقير لاقيمة له وذلك بصرف النظر عن مقدار ما تجنيه من مال.»
(فن اللامبالاة)
إمم مش بطال.

تابعت شفق: تقدر تاخده تقراه لو حابب.

فأومأ وليد رافضًا: لا شكرًا.

– ليه؟! ده هيفيدك كتير! تعرف إيه اللي تهتم بيه وإيه اللي ماتبصلهوش خالص! أصل اللي بيركز ف كل حاجة ومع كل الناس ده بيتعب جدًا! ركز ف نفسك وبس، ومش دايما التطلعات للأحسن بتكون مفيدة ساعات بتحسسك بضائلتك.

– امم، وانت بأه إيه اللي بتركزي فيه ولا بيأثرك ولا بينرفزك أصلًا؟

– مركزة ف نفسي وشغلي، و بتنرفز لما بشوفك.

فضحك بشدة وقال: طب والله طلع دمك خفيف!

ودقق النظر فيها بشكل أخجلها، فاضطرت وهتفت على استحياء وقد تخضبت وجنتيها: من فضلك دي مش طريقة!

– بحاول أتأكد إن كان ده لون عينيكِ ده حقيقي ولا لانسز.

– وده هيفيدك ف إيه! عمومًا ماحدش هيلبس نضارة نظر ولانسز مع بعض.

– طب ما تعملي لانسز وبلاش النضارة وبيني جمال عينيكِ.

فتورد وجهها خجلًا ثم صاحت تخفي توترها: من فضلك يا حضرة دي مش طريقة، وبعدين أنا مبسوطة كده، من فضلك بأه.

– عمومًا أحسن.

– واضح إن حضرتك عندك فراغ كتير في حياتك وبتحب تضيع وقت كتير، لكن ياريت تحط ف بالك إني لا بتاعة دغري ولا بتاعة تسلية.

– بصرف النظر إن كان عندي فراغ أو لا، مش بتاعة تسلية دي مفهومة، لكن مش بتاعة دغري دي يعني إيه! فاكرة نفسك …..

فقاطعته بحدة فاجأته: مش فاكرة نفسي أي حاجة على فكرة، وعارفة إني مش الأملة ولا ملكة جمال، بس عاجبة نفسي وراضية بيها على أي حال، وعارفة ومتأكدة إن عمر ما حد هيبصلي لا مال ولا عيلة وعادية وكمان عديت ال 30 يبقى الواحد ياخدها من قصيرها ويقفل الباب ده… في حاجة تانية!

– إنتِ شايفة إنك عادية! ده تواضع بأه! وبعدين طريقة التفكير دي قديمة قوي، إزاي واحدة مثقفة ولبقة زيك تفكر كده؟!

– مش أنا اللي بفكر كده، ده تفكير المجتمع ماحدش بقيّم حد لشخصه.

– بس أكيد في ناس بتفهم.

– حسب اللي حوالي بتلاقي البنت المجتهدة الصبورة اللي عندها استعداد تدي وتآزر نصها التاني بيقع نصيبها ف واحد مستهتر مش بيتحمل أي مسئولية وبيرمي كل حاجة عليها، والعكس الشاب المجتهد الطموح بيقع مع واحدة أنانية مالهاش غير ف المظاهر وطلباتها ما بتخلصش ومهما يديها ولا يعملها لا حمد ولا شكر وتقلل منه وكأنه ولا حاجة، دي كمان ممكن تسيبه وتروح لغيره.

لم تنتبه شفق أثناء حديثها لذلك الوجه الذي يتبدل ويتشنج فيزداد حنقًا وغضبًا، وما أن أنهت كلامها حتى فوجئت بوليدٍ ثائر للغاية وصاح فيها: كفاية! كفاية! كلكم عينة واحدة! كلكم زي بعض!

وألقى بالكتاب وانصرف فجأة ولم تفهم شفق ماذا حدث! لكنها أدركت أنها قد ضغطت على جرحٍ قديم فصار ينزف من جديد.

اختفي وليد بعدها بأسابيع ولم تعد تراه وودت لو تسأل عنه لكنها استحيت من ذلك.
ترى ماذا يعني هذا؟ هل هو مريض؟ هل ترك عمله؟
وإن تركه فهل بسببها؟
كم تمنت ألا يكون هذا بسببها!

وبعد فترة طويلة كانت شفق تحب السير في الحديقة خاصةً الجلوس جانب حوض ورد قد بدأ يزهر فتجلس وتستنشق عطره وتتلمس تلك الزهور في مكانها برقة.

وبينما هي شاردة إذ شعرت بوجود شخص جلس جانبها شعرت بأن قلبها كاد أن يقتلع من مكانه من قوة ضرباته فالتفتت جانبها فإذا هو ثم استدارت بوجهها تنظر أمامها كما كانت وابتسمت بسعادة تحاول إخفاءها.

ثم سألته: فينك يا بشمهندس؟ روحت وقولت عدولي!

– يعني تقدري شوية ظروف على شوية مشغوليات.

-خُفت لتكون سيبت الشغل واشتغلت ف حتة تانية… قصدي… إني أكون السبب يعني.

واستدارت بوجهها لتخفي ذلك الإرتباك وتلك الحمرة، فابتسم وليد مجيبًا: أنا بشتغل ف حتة تانية صحيح لكن عمري مااسيب هنا أبدًا.

– الله يعينك ويقويك ويفتحها ف وشك!

أهدر وليد في اندهاش: إنتِ بتدعيلي!

– وماله.

– بس انا دايما بضايقك.

– يا إما طبع يا إما ضغوط عندك وبتنفسها ف وش اللي أدامك.

– محللة نفسية كمان!

– مش للدرجة دي.

– انتِ بجد إزاي كده؟ هادية دايما وبتعرفي تلاقي عذر للي أدامك!

– عادي.

– بلاش تجنيني وتقوليلي عادي.

– اسمحلي أسألك سؤال.

– إتفضلي.

– انت علاقتك بربك شكلها إيه؟

– هه! يعني إيه؟

– ربنا خلقنا جسد وعقل وروح، الجسد من تراب فغذائه من تراب أيًا كان نوع الأكل، والعقل غذائه دايمًا العلم والقراءة، لكن الروح غذائها إيه؟

– إيه!

– ربنا قالنا إن الروح من أمر ربي، فيبقى غذائها كلام ربنا والذكر بكل أنواعه، متضايق مخنوق مش متظبطة معاك طول الوقت لازم تراجع علاقتك بربك، وأبسط حاجة بتصلي؟

ابتلع وليد ريقه فجأة وهمهم بخفوت فلم تنتظر الإجابة فقد ادركتها فأكملت: الصلاة بتخلق السكينة والهدوء ف النفس وبتغفر الذنوب كمان بس مش الكبائر.

– وايه الفرق؟

– الكبائر ذنب عظيم زي الشرك وعقوق الوالدين والزنا وحاجات كتير كمان و…

قد لاحظت مرة أخرى وجه وليد وأدركت أنه ربما فعل من تلك الأشياء فابتلعت ريقها ببطء ثم قالت: بس دول لوحدهم لأن بيلزم التوبة منهم وعشان لو واحد كان بيعمل الحاجات دي فده أكيد لأن في سبب خلاه يعمل الحاجات دي فلازم يقعد مع نفسه ويعرف السبب اللي بيخليه يعمل كده ولما يعرف السبب يقدر يحل الموضوع من جذوره ويتخلص منه وربنا يتوب عليه.

– فعلًا.

– «…. والذين إذا فعلوا فـٰحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون »
يعني يحس بذنبه ويسيبه وينوي ما يرجعش تاني ويستغفر ربه فربنا يتوب عليه.

كانت شفق تتحدث بأسلوبٍ هادئ جذبه وأقنعه كثيرًا وفجأة صوت أذان العصر فصمتا بينما تمتمت هي ذاكرة لله، وبعد انتهاء الأذان.

قالت شفق: سامع! ده صوت الأذان، أحسن بُشرى ليك، ربنا بينادي عليك وعايزك، روحله روح يا وليد اتوضأ وصلي ف المسجد شوفهم بيعملوا إيه واتعلم منهم أحسن، صحبة بيوت ربنا أحسن صحبة ممكن تلاقيها عشان لله ف لله، ويمكن ربنا جعلني في طريقك وألهمني أقولك الكلام ده عشان عايزك، أصلك وحشته.

كان وليد في حالة لم يعهدها من قبل شعر بهدوءٍ شديد وحلاوة تتسرب داخله وأحس وكأنه فاقد السيطرة على نفسه فاقتنع بكلامها كثيرًا وذهب بالفعل إلى المسجد ولم تكن آخر مرة بل كانت البداية لحياة وطريقٍ جديد له.

لو ف يوم كان الحمل عليك ثقيل
وتايه لوحدك ومش لاقي دليل
والهموم تخلي الليل طويل
وترميك ف غربة ومرارة و ويل
مد إيديك تلقاه دايما حواليك
هو الله قبلك حاسس بيك
لو ف يوم خدتنا معاصي أو ذنوب
وخافت قلوبنا ما تقدر تتوب
وتشكي الروح ومين بالسر ليه تبوح
ومين اللي يقدر يداوي الجروح
قول ياالله ده منك مش بعيد
متشلش هم ولا تشعر بضيق
قول ياالله
اهدي لي قلبي عشان أتوب
امحي الذنوب واهديلي الطريق
نورلي الطريق
إن شاء الله إن شاء الله
إن شاء الله هتلاقي الطريق
(العوض الجميل)
الفصل السابع

بقلم:نهال عبد الواحد

مرت أسابيع وأسابيع دون أي لقاء فلم تعد تراه شفق لكنها تلتمس له عذره فهو الآن في رحلة تغيير مسار حياته وبداية سلك طريقٍ جديد.

طريق التوبة وهو طريق صعب يحتاج إلى قوة وتركيزٍ كبير ليستطيع السير فيه بسرعةٍ مناسبة وكلما تذكرته دعت له أن يثبته الله ويزيده هداية لكنها تعجبت من نفسها، ألم ننتهي من ذلك الأمر مسبقًا؟
لِمَ تسببتِ بصراعٍ بين القلب والعقل؟

-ماذا دهاكِ ياشفق؟! لقد عشتٍ أعوامًا وأعوام تغلقين ذلك القلب وتسيرين بمبدأ ممنوع الاقتراب أو التصوير.

– إهدأ يا عقل قليلًا لقد آن الأوان أن آخذ فرصتي وأعيش وأنبض.

-هل فكرت في عواقب ذلك يا قلب؟ إنك تسير في طريقٍ مسدود.

– لا يهم حتى ولو لم أجني سوى ذكريات قليلة فهذا يكفي، أقله أكون قد تذوقت طعم سعادة المحب.

-ستكون الصدمة واللطمة قوية يا قلب وأقسى ما فيها أنها ستأتي من المحب.

– اللي خلقك قالك عيشها ياابن آدم حب يومك وناسك وافرح عمر بطوله،
اللي خلقك حنين عايز راحتك فيها وإنت مش مخلوق عشان تتعذب فيها.
كفاك حسابات واتركها ياعقل يدبرها صاحب الأمر.

ولقد كان وليد حقًا يخطو خطوات طريق التوبة ويتمسك بها جانب عمله الجديد.

اعتادت شفق طوال تلك الفترة أن تجلس جوار حوض الزهور حيث آخر لقاء حتى وقت الغروب لتودع آخر شعاع للشمس في يومها كما تستقبله كل يوم.

كانت تستنشق عبير تلك الزهور وأحيانًا تتلمسها برقة.

وذات يوم بينما هي جالسة تذكرت وليد في كل لقاءاته وكيف كان مستفزًا ومتكبرًا للغاية لكن مع ذلك هو الوحيد الذي تحرّك إليه قلبها واختاره يدق له.

شعرت شفق بمن يجلس جوارها أرضًا فوق النجيل الأخضر وبين الزهور في ذلك الوقت البديع وبمجرد جلوسه انتفضت وكاد يخرج قلبها من مكانه وهي تلتفت مسرعة…
أجل إنه وليد! بعد غياب ولأول مرة ترفع عينيها في وجهه متفحصةً ملامحه، وصاحت بلهفة: وليد!

فأجاب بنفس اللهفة: أول مرة أعرف إن إسمي حلو كده.

فابتسمت وأخفضت نظرها، فأكمل: طب ينفع أقول وحشتيني؟
فهزت برأسها أن نعم بنفس الابتسامة، ثم قالت بخفوت: شكلك اتغير، للأحسن.

– اللي تدخل حياته ملاك زيك لازم يتغير للأحسن.

– مش للدرجة دي هو أنا عملت إيه يعني؟

– كنت ماشي في عتمة وبتخبط يمين وشمال وانت نورتيلي الطريق، إدتيني روشتة تحللي مشاكل كتير ونفسي ألاقي روشتة مناسبة ليكِ.

– لي أنا!

– امم! روشتة لوحدتك، حاسس دايما بحزن مدفون جواكِ.

– الوحدة! الوحدة صحيح بتقتل أوي، بس المشكلة إن ما ينفعش تدي مساحة لحد إنه يقرب، دايما اللي بيقرب لدرجة معينة بيبقى له حق يعرف أكتر وأكتر، بس اللي هيعرف أكتر مش هيفهم صح، فاختار أعيش بوشين وش شيك كلاس ارستقراطي ووش تاني بسيط حقيقي، أنا واحدة بسيطة من منطقة شعبية م اللي بيسموها لو استاندر، والدي كان عامل ف مصنع وعنده ورشة نجارة بيشتغل الصبح وبعد الضهر عشانا، رباني وكبرني وعلمني لحد مااتخرجت وهو اللي جابلي شغلتي ف المدرسة دي عن طريق واسطة كان يعرفها وقاللي أنا حطيتك ع الطريق وكملي انت الباقي بشغلك ومجهودك، ومن يومها وأنا بشتغل أكتر وأكتر ومحافظة على شكلي بس كان تمنه وحدة كبيرة أوي.

كانت تتحدث بعينين ملتمعتين تهدد بهطول دمعها في أي لحظة.

فسألها وليد: مالكيش إخوات أو قرايب؟

فانتبهت فجأة كأنما كانت مغيبة وهي تحكي وبدت مترددة وخائفة بشكلٍ واضح، فقال لها: خلاص خلاص ما تكمليش، بس لما تحسي إنك قادرة تكملي وتحكي أنا تحت أمرك.

نظر في ساعته وهم بالوقوف، فقالت: ماتخليك شوية.

فبدت عليه سعادة شديدة ولقاء طويل وصامت للعيون فقط، وبعد مضى بعض الوقت في ذلك الصمت قال: يادوب صلاة المغرب وبعدها ورايا حاجات تانية، وبعدين يادوب زمان شفق صحيت م النوم.

فنظرت له بتعجب ثم قالت: وإنت عرفت منين؟

سكت قليلًا ثم قال بتردد: هه! أكيد طبعًا نايمة، أمال هتسيبك تقعدي لوحدك إزاي؟

فهزت رأسها بأن نعم بتفهم رغم شعورها بأن لتلك الإجابة تكملة لكنها لم تسأل.

وقفت شفق لتغادر هي أيضًا فنادى عليها وقطف وردة جميلة وقدمها إليها، فأخذتها بابتسامة واسعة وسعادة شديدة ظاهرة تفاجأ بها فلم يتوقع وليد سعادتها بوردةٍ لتلك الدرجة.

احتفظت شفق بتلك الوردة بين إحدى صفحات مذكراتها وكانت تفتح تلك الصفحة كل يوم وتنظر إليها بنفس السعادة فهي ترى فيها وجه وليد الذي أخيرًا قد حفظت ملامحه الوسيمة التي تشبه نجوم السينما رغم عدم لقاءهما منذ زمن.

وذات يوم كانت ليلًا في بيت أبويها قلقة وخائفة كعادتها تحاول تذكر ملامحه أو أي موقف جمعهما ربما تستطيع النوم بهدوءٍ مستخلصة من ذلك الخوف الذي يتخللها دائمًا وبالفعل بدأت تغفو.

لكن فجأة صوت ضجيج أفزعها فهبت جالسة مزعورة تنهج بشدة وتشعر أن قلبها سيقف من الرعب، فاقتربت من باب الحجرة بجسدٍ مرتعش تفتحه بهدوء بإحدى يديها المرتعشتين بالأخرى تكتم بها صوت أنفاسها المرعوبة.

فجحظت عيناها من هول ما رأت، إنه أخيها ومعه فردان والثلاثة غائبي الوعي ويتمايلون من الثمالة ومعهم فتاة عاهرة وأصوات ضحكاتهم المقززة تملأ المكان وكادت أن تجن..

أيعقل ما يحدث؟!
ألتلك الدرجة وصل فسادك يا ابن أمي؟!
أتأتي بصحبة السوء إلى بيت أبيك؟!
أترضى بارتكاب الفواحش فيه؟
ياالله! ماذا أفعل ؟
هل أخرج لأطردهم شر طردة؟
لا لا، إن الخروج الآن غير مأمون العواقب على الإطلاق… إلزمي حجرتك وهدوءك وربي خير حافظًا.

وجلست ذاكرة لله في خوفٍ شديد ولكن فجأة….
من يقتحم حجرتها ويفزعها، فأضاء الحجرة ورآها فنادي لصاحبه ثم دخلا متحفذين…
فالذئاب قد وجدت فريستها!

كانت تصرخ وتصيح وتنادي على أخيها بأقصى ما لديها من قوة وصوت… لكن أين أخيها؟

فجذبت عبائتها ارتدتها بسرعة فوق جلبابها البالي، وضعت حجابها على رأسها بشكلٍ عشوائي متبعثر وهي تقفز من هنا إلى هنا وتقذفهم بكل ما تطوله يدها.

حتى أمسكت بباب خزانة الملابس المخلوع ورمته على أحدهما وضربت الآخر على رأسه بشماعة خشبية فشجت رأسه.

ثم جرت بأقصى ما لديها خرجت من بيت أبيها في هذه الساعة المتأخرة وأبواب الجيران تتفتح وترميها في عرضها بأقذر الكلمات وأخدشها حياء وهي تكمل ركضًا دون توقف.

جرت في الطرقات حيث المتسكعين والمستسكعات لكنها لم تتوقف وظلت هكذا، على قدميها فلم تأخذ معها أي نقود ولتسرع لتصل قبل الصباح قبل أن يدركها أهل المنطقة أو أحد السكان.

ظلت هكذا طوال الليل في خوفٍ ورعب حتى شق الأجواء صوت أذان الفجر الذي يهدئ نفسها كل يوم تسمعه، يعني لديها انتهاء ظلمة مرعبة وبداية صباح مشرقًا بالأمل.

دخلت أول مسجد قابلها، توضأت وصلت ثم دعت ربها كثيرًا بعدها جلست تستريح قليلًا، لكنها لا تشعر بجسدها ذلك فقد فاق إحساسها بالوجع حتى تبلد فلم تعد تشعر بوجوده أصلًا فخرجت لتكمل طريقها.

وأخيرًا وصلت إلى شقتها مع الساعات الأولى من الصباح الباكر ولحسن حظها أن اليوم عطلة ولم يتواجد أحد باكرًا وكانت معلقة  مفاتيح البيت والمصعد والشقة في خيط حول رقبتها  ففكته وفتحت.

دخلت شقتها وأغلقت الباب خلفها وأخيرًا عاد إليها الشعور فلم تحملها قدماها فسقطت أرضًا وهي تبكي بشدة، حاولت الوقوف والحركة حتى ولو حبوًا إلى  الحمام ثم فتحت الماء على رأسها فترة من الوقت ولازالت دموعها تجري دون توقف.

خرجت ودثرت نفسها في فراشها بأغطيةٍ كثيرة لكن لازالت ترتعش بشدة وتبكي بحرقةٍ شديدة وتنتحب أكثر وأكثر حتى بح صوتها من شدة البكاء لكن لم تتوقف عن هذه الحالة الهيستيرية حتى تكاد تفقد وعيها فترى ما حدث في منامها فتنتفض فزعًا، ثم فقدت وعيها مجددًا فترى أحدهما وقد لحق بها وقيدها عنوة و…..
فتنتفض مجددًا وتصرخ لكن لم يعد صوتها يخرج لقد اختفى…..

(الفصل الثامن)

كان وليد قد عهد صلاة الفجر في المسجد يوميًا وقد رأى تلك الليلة شفق في منامه تجري وتصرخ فاستيقظ لصلاة الفجر مفزوعًا مقبوض الصدر فنفض ذلك المنام من رأسه إلا أنه لم يتخلص من قبضة الصدر تلك طوال يومه.

انتظرت هالة وشفق الصغيرة شفق، فاليوم عطلة ولم تأتي على غير عادتها ومهما اتصلت بها هالة لا تجد ردًا فالهاتف مغلق فانتابها قلق عظيم حتى حل المساء ولا خبر عنها وكانت الطفلة طوال اليوم مزمجرة من حينٍ لآخر ثم بدأت في البكاء.

فتنهدت هالة وسألتها بضيق: في إيه تاني بس يا فوفا؟

أجابت الطفلة بحزن: ميس شفق ماجاتش إنهاردة وفضلتي تقولي جاية كمان شوية وما جاتش، أنا عايزة أروح أطمن عليها ، أنا عارفة البيت.

– هنروح إزاي بس؟

– هنروح زي ما بروح كل يوم عندها.

– السواق إنهاردة أجازة، هعملك إيه!

– ماليش دعوة.

وبدأت في البكاء مجددًا، فإذا بصوتٍ يحدثها: إيه يا حبيبة بابي، مين مزعلك؟

أجابت هالة بتنهيدة: مفيش حاجة يا وليد.

صاحت شفق: لا في! ميس شفق ماجاتش إنهاردة وكل مانتصل بيها تليفونها مقفول وأنا عايزة أروحلها وننا مش راضية.

فالتفت وليد نحو أمه متسآلًا: صح الكلام ده يا ماما؟

أومأت هالة: آه يا بني، وقلبي واكلني عليها هموت م القلق ومش عارفة اعمل إيه! دي وحدانية.

تابعت شفق: عايزة أروحلها يا بابي، بليز!

تنحنح وليد قائلًا: انتو عارفين بيتها فين؟

أهدرت شفق بحماس: أيوة يا بابي ننا عارفة السكة.

أجابت هالة: أيوة معايا العنوان، كنت ببعت السواق يجيب شفق كل يوم من عندها.

فقال وليد: طب اتفضلوا إلبسوا و يلا بينا.

وبالفعل بدلت كلًا من هالة وشفق ملابسهما وركبوا جميعًا في سيارة وليد، ظلت هالة تصف الطريق لوليد حتى وصلوا إلى البيت فترجل وليد أولًا يتحدث إلى حارس العقار، ألقى السلام فأجاب عم عبده: وعليكم السلام ياباشا، أي خدمة؟

– في واحدة ساكنة هنا إسمها ميس شفق هي مدرسة.

– أيوة.

– هي موجودة؟

– مش عارف، بس أنا ما لمحتهاش إنهاردة على غير العادة إنها ما تنزلش، يمكن ريحت ف البيت عشان أجازة، هو مين حضرتك؟

تردد وليد قليلًا ثم أجاب: واحد قريبها.

فنظر إليه الرجل نظرة لم تعجب وليد فذهب لأمه في السيارة لتنزل هي وشفق وما أن رآهما عم عبده حتى عرف الطفلة فهي تأتي مع شفق يوميًا وصعدوا جميعًا واصطحبهم حارس العقار حتى شقة شفق وبدؤا يطرقون الباب.

كانت شفق لا تزال في نفس حالتها المنهارة وما أن سمعت صوت طرق الباب حتى انتفضت من مكانها وارتعشت أكثر وأكثر، نهضت وارتدت إسدالها وسارت مترنحة من كثرة إنهيارها، ارتعاشها ووهنها أيضًا فلم يدخل أي شيء جوفها حتى اقتربت من الباب وقالت بصوتٍ مرتعش خوفا: مين؟

صاحت هالة: افتحي حبيبتي أنا ماما لولي.

فأخذت نفسًا عميقًا ثم فتحت المفتاح وأمسكت به في يدها ثم فتحت الباب، لكن بمجرد أن فتحته حتى سقطت مغشيًا عليها فأسرع وليد بحملها وذهبوا بها إلى المشفى.

وبعد فحص الطبيب….

تسآلت هالة بقلق: خير يا دكتور!

أجاب الطبيب بعملية: إنهيار عصبي شديد.

فسأله وليد: وده من إيه يا دكتور ؟

أجاب الطبيب: أنا اللي المفروض أسأل السؤال ده، واضح إنها اتعرضت لصدمة شديدة جدًا.

تابع وليد: إحنا لاقيناها كده.

قال الطبيب: إنتو مش أهلها!

أردفت هالة: لا يا بني هي وحدانية ومدرسة حفيدتي وكنا بنوصل البنت عندها لاقيناها كده.

أومأ الطبيب بتفهم: عمومًا الإجابة هتفضل معاها لحد ما تفوق، أو بمعنى أدق لحد ما تقدر تتكلم مع حد، أنا إديتها منوم هي محتاجة تنام.

وتركهم ودخلوا إليها الغرفة وكانت هالة تبكي وشفق قد تعبت ونامت، أما وليد نظر إليها بحزنٍ وحيرة شديدة متسآلًا ماذا حدث لتنهار هكذا!

لم يبعد وليد عينيه من عليها حتى وهو جالسًا بعيدًا عن السرير فانتبهت أمه لذلك خاصةً عندما غفلت عينا هالة قليلًا وفتحتها وجدت وليد جالسًا بالقرب من شفق يقبل يدها فابتسمت وأعجبها ذلك.

نادته أمه فجلسا في جانبًا بعيدًا عن شفق.

تحدثت هالة: مسكينة أوي البنت دي، يارب اشفيها واعفي عنها وقومها بالسلامة.

تابع وليد: يا رب.

– شفق ما ينفعش تفضل لوحدها تاني يا وليد، أنا هقولها بعد ما تخف تيجي تعيش معانا.

عقد وليد حاجبيه بتعجب قائلًا: تفتكري هتوافق!

– أيوة هتوافق.

فنظر إليها وليد بتساؤل ولم يعقب فأكملت هالة برفق: هتوافق لما تتجوزها يا وليد.

فانتفض من مكانه وصاح: أ….إيه!

– إيه مالها؟ البنت زي الفل وأخلاقها وطبعها بسم الله ماشاء الله، وأنا وشفق بنحبها ربنا يعلم أد إيه وهي كمان، وبعدين خلاص عينيك فضحتك وكله بان وما ينفعش تنكر إنك ما تقدرش تستغني عنها، إزاي غابت عني دي؟! دلوقتي بس عرفت سبب تغييرك!

فرد بغضب: هي مين دي اللي مااقدرش أستغنى عنها؟! لا وألف لا! لا يمكن أسلم نفسي لأي واحدة تاني من بنات حواء! فاهماني! كلهم عينة واحدة!

ثم انصرف مسرعًا، وللأسف انصرف تمامًا لقد عاد من جديد لحياة الفساد واللهو والمجون، لكن هذه المرة أشد وأكثر إيلامًا لنفسه.

فالبعد بعد العودة والهداية تكون معه وخذة ضمير، أحيانًا يحاول الشيطان إخمادها حتى لا تنجح في إيقاظ باقي الجسد.

لقد رأى وليد في هدايته أنه لأجلها، ربما كان ذلك في البداية لكن من عجائب وجمال الطريق إلى الله أن من يتذوق طعم القرب ومحبة الله يزداد حبًا وتعلّقًا لهذا الطريق.

لكن يلزم الاختبار وبما أنه قد أدرك ذلك فظن أن ترك الهداية تركًا لها، لكن هيهات!

فرغم كل الفساد الذي يغمس نفسه فيه يظل يؤنب نفسه مما يفعل فيعند ويرغم نفسه أن تفعل كأنه ينتقم منها أن أحبت -ثبتنا يارب جميعًا على طريق الهدى-

أما هالة فقد كانت هي والطفلة مع شفق يوميًا وكانت في البداية صامتة وشاردة تمامًا لا تتحدث مع إحداهما ولا تلعب حتى مع شفق.

كانت تعود بذاكرتها لذلك اليوم وتتذكر تفاصيله فتتألم وأحيانًا تتخيل أن أحدهم قد تمكن منها فترتعد فرائسها وتبكي مجددًا.

ومرت أيام وبدأت شفق تهدأ نسبيًا وخرجت من المشفى وعادت إلى شقتها وكانت هالة تأتيها هي وشفق وإحدى الخادمات فتجلسن معها طيلة اليوم.

لكن بمجئ الليل تنصرفن فتشعر بوحشةٍ وخوفٍ شديدين وتشعر بها هالة خاصةً عندما تسلم عليها عند انصرافها.

وذات يوم إذ كانت شفق تلعب جوارها وهي جالسة صامتة ترد على الكلام بالكاد.

سألتها هالة مترقبة: خلاص يا حبيبتي استقريتي هنا؟

فهزت برأسها أن نعم وبدأت ملامحها تتغير.
فتابعت هالة: مش قصدي، خلاص خلاص ما تقوليش حاجة.

لكن شفق تماسكت وقصت كل ما حدث وقبل أن تنتهي كانت عاودت البكاء من جديد فأهدأتها هالة واحتضنتها برفق.

تنهدت هالة براحة: الحمد لله إنها جت على اد كده حبيبتي، وحمد الله على سلامتك! خلاص الكابوس ده خلص وراح وأنا معاكِ أهو ومش هسيبك أبدًا لا أنا ولا شفق.

فنظرت ناحية الطفلة ثم اعتدلت متفاجأة ثم صاحت: ماما، هي شفق مالها؟

– مالها؟

– وشها أصفر أوي وشفايفها زرقا، هو باباها لسه ما لاقاش دكتور مناسب كل ده؟

فتنهدت هالة وقالت: إن شاء الله، لما يرجع.

صاحت شفق: إزاي يا ماما؟! صحة بنته أهم من سفرياته وشغله، ياريت كان ليّ كلام معاه كنت كلمته.

فنظرت لها هالة بتعجبٍ وعدم فهم لكنها لم تعلق.

وفي الفيلا جلست هالة إلى بعد منتصف الليل تنتظر ابنها حتى عاد أخيرًا، مترنحًا ويدندن فانتبه لوجود أمه.

فصاح بصوتٍ مخمور: ماما لولي! إده مستنياني بنفسك!

– يا أخي فوق لنفسك بأه، ده انا كنت ما صدقت إن حالك انصلح وعرفت سكة المسجد وواظبت على الصلاة، انت بتعاقب مين فهمني؟! ولا فاهم إنك بتمن على ربنا بتوبتك دي؟! الصالح صالح لنفسه وبس! بس أنا خايفة عليك، وخايفة على بنتك كمان، البنت حالتها بتتأخر وانت ولا على بالك! بدل ما تقرب من ربنا وتدعي ليل ونهار إنه يشفيها ويرزقك بدكتور شاطر يعالجها، شوف بتعمل إيه! كفاية يا بني بدل ما بذنبك ده تتحرم منهاز

جلس وليد ونظر بلامبالاة فقامت إليه غاضبة وجذبته من ملابسه هزته بكل ما أوتيت من قوة لكنه لم يبالي لها فلطمته على وجهه بأقصى ما لديها وهي تصرخ في وجهه: ما تفوق بأه! فوق!

فوجم وليد وتجمد مكانه ثم نظر نظرة طويلة بعدها جرى مسرعًا إلى غرفته.الفصل الخامس

شعرت شفق أنها تعيش أحلى أيام حياتها التي لم تكن تحلم بها حيث شعرت بأمومتها تجاه شفق الطفلة حتى وإن كان ما تقضيه معها مجرد ساعات قليلة والطفلة كذلك شعرت بأن شفق هي العوض الجميل عن أمها المفقودة فكل منهما عوض للأخري.

وتشعر بحنان هالة الأم الذي افتقدته وهي تعاملها كإبنتها التي افتقدتها فصارت فكلًا منهما عوضٍ للأخرى.

وذات يوم بينما شفق داخلة إلى الفيلا كعادتها إذا بصوتٍ رجولي يستوقفها فالتفتت ناحية مصدر الصوت فإذا به شاب طويل وعريض له ملامح وسيمة نوعًا مرتديًا ملابس بسيطة، نظارة شمسية وقبعة ممسكًا في يده أداة لا تعرفها يبدو أنها تستخدم في تقليم الزرع.

صاح الشاب: إنتِ يا اللي داخلة! هي وكالة من غير بواب! رايحة فين كده؟

انتفضت شفق وأجابت بفجأة: شكلك جديد هنا ولا إيه!

– إنتِ هتردي ع السؤال بسؤال!

– حضرتك إحنا شغالين ف مكان واحد يعني زملا ما يصحش طريقتك دي.

– زملا!

– مش حضرتك الجنايني الجديد؟

– جنايني!

– بعتذر لحضرتك، المسؤول عن الجنينة والزرع، حلو كده!

– وتطلعي مين حضرتك؟

– أنا التيتشر بتاعة شفق.

– دادة يعني.

سكتت قليلًا ثم ابتلعت ريقها متحدثة بهدوء: على فكرة كلمة جنايني كانت غير مقصودة وأنا اعتذرت عليها.

– وجعتك أوي إنك الدادة بتاعتها!

فقالت ولا تزال تحافظ على هدوءها: على فكرة أنا مايهمنيش رأي اللي حوالي في أو ف حاجة بعملها ما دمت مقتنعة بيها ومش غلط، كون حضرتك شايفني دادة فده ما يهمنيش عادي جدًا، عل إذنك.

ودخلت تركته مستشاطًا غضبًا.

وفي يوم آخر بينما تدخل شفق الفيلا فإذا بنفس الصوت: متأخرة يعني إنهاردة!

– معلش المواصلات زحمة.

– مواصلات! ليه ما عندكيش عربية؟

– لا للأسف، ربنا يبعت!

وكانت شفق تتحدث إليه متلفتة في كل اتجاه لا تنظر إليه كعادتها عندما تحادث الرجال وإن كان غير واضح خلف النظارة الشمسية لكن من يدقق بشدة ربما يلاحظ ذلك.

إنتِ إيه! ما عندكيش ذوق!

شهقت شفق بصدمة: نعم!

– ما تعرفيش إن من الذوق وإنتِ بتكلمي حد تبصيله ف وشه وتبقى عينك في عينيه.

– بس مش من الحياء ولا الدين إني أبحلق في وش راجل غريب.

– ليه؟ مش بتقولي زملا!

– غريب بمعنى مش محرم لي، وبعدين النضارة دي مش مبينة حاجة، خت بالك إزاي؟!

– خت بالي وخلاص.

-طيب.

قالتها وهمت بالدخول، فناداها الشاب مجددًا: يا ميس شفق!

أجابت شفق بتأفف: أفندم! بحسبك خلصت خناق.

وكاد أن يبتسم ثم قال: إنتِ عمرك ما سألتيني عن إسمي!

– على فكرة لو كنت سيبتها أعتقد كان هيبقى ألطف كتير.

– هي إيه دي؟

– الابتسامة اللي كانت ناوية تطلع وكبستها زي ما بتكبسني على طول، ده حتى التبسم صدقة وهتاخد عليها ثواب، حاجة لوجه الله يعني.

– أنا برضو اللي بكبسك! أمال انت إيه! وختي بالك كمان إني كنت هبتسم!

قال الأخيرة بمكر فتابعت بارتباك: بدون قصد يعني، عل إذنك.

– إنتِ مستعجلة كده ليه؟

– عشان الوقفة معاك هنا تضييع وقت ومالهاش معنى، عل إذنك.

– بس إنتِ لسه ماعرفتيش إسمي.

– إتفضل.

نبست من بين أسنانها على مضض، فقال الشاب: وليد.

ابتسمت بتكلف قائلة: أهلًا وسهلًا، عل إذنك.

وانصرفت فقال: عاملة زي القطر بالظبط تمشي طوالي وخلاص.

وفي يوم آخر واستوقفها كالعادة صوت وليد: هو إنتِ لازم تبصي أدامك وإنتِ ماشية!

انتفضت شفق مفزوعة ثم تلاقطت أنفاسها وقالت بصوتٍ مرتعش: بسم الله الرحمن الرحيم، إنت بتطلع منين؟ الناس بتقول صباح الخير ولا أي تحية مناسبة، مش تكبس كده.

– ما ردتيش يعني!

أومأت شفق بتأفف عاقدة ساعديها أمام صدرها: نعم، إتفضل اتخانئ يلا.

فتأفف وقال: باشوفك بتبصي أدامك على طول وإنتِ ماشية.

تابعت شفق بفرغ صبر : هو في طريقة تانية للمشي! مش فاهمة!

– يعني اتعودت الناس تدور عليّ، إنتِ إيه بأه يعني مثلًا مابتدوريش عليّ وإنتِ داخلة!

– أدور عليك!

فضحكت فنظر إليها وليد واجمًا ثم قال: هو أنا قُلت نكتة!

– آسفة مش قصدي، بس هدور عليك ليه؟

– يعني تشوفيني مثلًا؟

– شكلك يا إما بتجر شكلي يا إما مغرور!

– مش قُلتي إننا زملا! يعني تدوري عليّ وتسلمي وتطمني كمان.

– واضح إنك بتحب تضييع الوقت زي عينيك بجانب حبك للمناقرة والخناق.

– بأه أنا بحب تضييع الوقت!

– طب في حاجة تانية لسه ما قولتهاش؟

– أنا غلطان إني باخد وأدي معاكِ ف الكلام.

– يارب تخلّص إنهاردة! دماغي فيها اللي مكفيها.

– بتفكري ف إيه يعني؟

فقالت بوجه مشرق وباسم: دلوقتي بفكر في شفق حبيبة قلبي اللي بتوحشني من سواد الليل، متهيألي لو عندي بنت مش هحبها كده، بفكر في ماما هالة وأد إيه مستنياني ووحشاني ووحشاها أوي من الأسبوع للأسبوع.

– ماما هالة!

– أصلنا ارتاحنا لبعض وحبينا بعض أوي، لدرجة إننا حاسينا ناحية بعض إننا أم وبنتها، مع حفظ المقامات طبعًا، فطلبت مني أقولها ياماما، وكأني ما صدقت.

فنظر إليها عاقدًا حاجبيه ثم قال: وإنتِ مامتك فين أمال؟

فتبدل وجهها تمامًا بشكلٍ ملحوظ: الله يرحمها ماتت هي وبابا ف حادثة عربية.

وانهمرت دموعها فجأة بغزارة دون سابق إنذار فأحزنه ذلك وندم على هذا السؤال وود لو لم يسأله.

فقال بضيق: أنا كنت بسأل مجرد سؤال، خلاص خلاص.

لكنها لم تتوقف وكأن الدموع كانت واقفة خلف باب عينيها وفُتح هذا الباب وانتهزت هذه الفرصة وتساقطت شلالات دون توقف.

فأخرج منديلًا من جيبه وجذب النظارة الشمسية ليمسح دمعها فرمقته بفجأة لجرأته.

كان لشفق عينين عسليتين عندما تُرى في ضوء النهار وخاصةً في ضوء الشمس يتبدل لونهما …
ويا ويل من ينظر وقتها لهما!

وجم وليد قليلًا عندما رآها ثم همس بلهجة مختلفة: إيه العينين دي!

فصدمت شفق أكثر من قولته تلك فخطفت نظارتها واختفت من أمامه راكضة بمزيجٍ من الحرج والغضب.

وبعد أن انصرفت قال محدثًا نفسه: إيه الهباب اللي هببته ده! بأه هي بتعيط لما افتكرت أهلها اللي ف حادثة وأنا بقول إيه!
لا بس العيون دي جامدة! هو في كده! أتاريها لابسة نضارة شمس على طول وما بترفعهمش ف وش حد، طبعًا كان زمان ضحايا العيون دول بالكوم.

(الفصل السادس)

وذات يوم بينما كانت شفق تدخل إلى الفيلا ولم يكن موجودًا فوقفت قليلًا في مكانها دون أن تلتفت ثم أكملت سيرها إلى الداخل وكان وليد يتابعها عن بُعد.

دخلت شفق وأكملت يومها مع شفق الطفلة كما جلست مع هالة لكن كان عقلها مزدحمًا بالأفكار.

ماذا دهاكِ ياشفق؟ لم تبدين هكذا؟
توقفي! ما تأملي به هو حلم بعيد المنال.
هل نسيتِ حقيقتك؟ حقيقتك التي لن يقبل بها أحد.
إن الناس لا يشغلهم إلا المظاهر فلن يهتموا إطلاقًا بعملك ولا إلى ما وصلتِ إليه.
لو علم الحقيقة التي عشتِ عمرك تخفينها عن الجميع! لم تصادقي أحدًا حتى لا يتقرب إليكِ ويكتشف الحقيقة، فليس كل الناس مثل هالة.
لكن ماذا عن علاقة وارتباط؟ لا يمكن إخفاء حقائق فيها، تُرى هل سيقبلها؟
وإن قبلها وود الذهاب لرؤية ذلك المكان الذي يزداد توحشًا وفسادًا،
تلك المنطقة التي هرب منها معظم سكانها ولم يتبقى سوى فئة أكثرهم منحرفين ومتعاطي المخدرات، وإن جاء وسأل عني فسيسمع أقبح الكلمات.
إنهم لم يكفوا يومًا منذ وفاة والدايّ عن إيذائي ورمييّ بأفظع التهم والمسميات.
وماذا عن أخيكِ أيضًا؟!
هيا انفضي كل ذلك ولا تتطلعي إلى ما لا تستطيعين تحقيقه.

كانت ممسكة كتابًا في يدها وشاردة هكذا وجالسة في الحديقة فإذا بوليدٍ يجئ على فجأة ويخطف الكتاب فأفزعها من مكانها وقبل أن تتلاقط أنفاسها كان يتصفح في الكتاب ثم قال: بتقري إيه؟إيه! فن اللامبالاة! وإنتِ ناقصة لا مبالاة؟! دي البعيدة لوح تلج ما بيتهزش… إيه!
وقرأ…..

«إذا انتابك شعور سيء تجاه نفسك ولو مدة خمس دقائق فإنك تجد نفسك على الفور أمام مئات الصور لأشخاص سعداء تمامًا يعيشون حياة مدهشة إلى أقصى حد ويصير مستحيل أن ترد عن نفسك الإحساس بأن فيك بالتأكيد أشياء غير صحيحة حتى يكون وضعك أقل منهم،
هذا ما يجعل عدم إكتراثك بأن يكون لديك شعور سيء تجاه نفسك وتجد أنك قد توقفت عن كره نفسك إن الرغبة في المزيد من التجارب الإيجابية هو تجربة سلبية.
كلما كنت شديد الرغبة في أن تكون ثريًا كلما شعرت بأنك فقير لاقيمة له وذلك بصرف النظر عن مقدار ما تجنيه من مال.»
(فن اللامبالاة)
إمم مش بطال.

تابعت شفق: تقدر تاخده تقراه لو حابب.

فأومأ وليد رافضًا: لا شكرًا.

– ليه؟! ده هيفيدك كتير! تعرف إيه اللي تهتم بيه وإيه اللي ماتبصلهوش خالص! أصل اللي بيركز ف كل حاجة ومع كل الناس ده بيتعب جدًا! ركز ف نفسك وبس، ومش دايما التطلعات للأحسن بتكون مفيدة ساعات بتحسسك بضائلتك.

– امم، وانت بأه إيه اللي بتركزي فيه ولا بيأثرك ولا بينرفزك أصلًا؟

– مركزة ف نفسي وشغلي، و بتنرفز لما بشوفك.

فضحك بشدة وقال: طب والله طلع دمك خفيف!

ودقق النظر فيها بشكل أخجلها، فاضطرت وهتفت على استحياء وقد تخضبت وجنتيها: من فضلك دي مش طريقة!

– بحاول أتأكد إن كان ده لون عينيكِ ده حقيقي ولا لانسز.

– وده هيفيدك ف إيه! عمومًا ماحدش هيلبس نضارة نظر ولانسز مع بعض.

– طب ما تعملي لانسز وبلاش النضارة وبيني جمال عينيكِ.

فتورد وجهها خجلًا ثم صاحت تخفي توترها: من فضلك يا حضرة دي مش طريقة، وبعدين أنا مبسوطة كده، من فضلك بأه.

– عمومًا أحسن.

– واضح إن حضرتك عندك فراغ كتير في حياتك وبتحب تضيع وقت كتير، لكن ياريت تحط ف بالك إني لا بتاعة دغري ولا بتاعة تسلية.

– بصرف النظر إن كان عندي فراغ أو لا، مش بتاعة تسلية دي مفهومة، لكن مش بتاعة دغري دي يعني إيه! فاكرة نفسك …..

فقاطعته بحدة فاجأته: مش فاكرة نفسي أي حاجة على فكرة، وعارفة إني مش الأملة ولا ملكة جمال، بس عاجبة نفسي وراضية بيها على أي حال، وعارفة ومتأكدة إن عمر ما حد هيبصلي لا مال ولا عيلة وعادية وكمان عديت ال 30 يبقى الواحد ياخدها من قصيرها ويقفل الباب ده… في حاجة تانية!

– إنتِ شايفة إنك عادية! ده تواضع بأه! وبعدين طريقة التفكير دي قديمة قوي، إزاي واحدة مثقفة ولبقة زيك تفكر كده؟!

– مش أنا اللي بفكر كده، ده تفكير المجتمع ماحدش بقيّم حد لشخصه.

– بس أكيد في ناس بتفهم.

– حسب اللي حوالي بتلاقي البنت المجتهدة الصبورة اللي عندها استعداد تدي وتآزر نصها التاني بيقع نصيبها ف واحد مستهتر مش بيتحمل أي مسئولية وبيرمي كل حاجة عليها، والعكس الشاب المجتهد الطموح بيقع مع واحدة أنانية مالهاش غير ف المظاهر وطلباتها ما بتخلصش ومهما يديها ولا يعملها لا حمد ولا شكر وتقلل منه وكأنه ولا حاجة، دي كمان ممكن تسيبه وتروح لغيره.

لم تنتبه شفق أثناء حديثها لذلك الوجه الذي يتبدل ويتشنج فيزداد حنقًا وغضبًا، وما أن أنهت كلامها حتى فوجئت بوليدٍ ثائر للغاية وصاح فيها: كفاية! كفاية! كلكم عينة واحدة! كلكم زي بعض!

وألقى بالكتاب وانصرف فجأة ولم تفهم شفق ماذا حدث! لكنها أدركت أنها قد ضغطت على جرحٍ قديم فصار ينزف من جديد.

اختفي وليد بعدها بأسابيع ولم تعد تراه وودت لو تسأل عنه لكنها استحيت من ذلك.
ترى ماذا يعني هذا؟ هل هو مريض؟ هل ترك عمله؟
وإن تركه فهل بسببها؟
كم تمنت ألا يكون هذا بسببها!

وبعد فترة طويلة كانت شفق تحب السير في الحديقة خاصةً الجلوس جانب حوض ورد قد بدأ يزهر فتجلس وتستنشق عطره وتتلمس تلك الزهور في مكانها برقة.

وبينما هي شاردة إذ شعرت بوجود شخص جلس جانبها شعرت بأن قلبها كاد أن يقتلع من مكانه من قوة ضرباته فالتفتت جانبها فإذا هو ثم استدارت بوجهها تنظر أمامها كما كانت وابتسمت بسعادة تحاول إخفاءها.

ثم سألته: فينك يا بشمهندس؟ روحت وقولت عدولي!

– يعني تقدري شوية ظروف على شوية مشغوليات.

-خُفت لتكون سيبت الشغل واشتغلت ف حتة تانية… قصدي… إني أكون السبب يعني.

واستدارت بوجهها لتخفي ذلك الإرتباك وتلك الحمرة، فابتسم وليد مجيبًا: أنا بشتغل ف حتة تانية صحيح لكن عمري مااسيب هنا أبدًا.

– الله يعينك ويقويك ويفتحها ف وشك!

أهدر وليد في اندهاش: إنتِ بتدعيلي!

– وماله.

– بس انا دايما بضايقك.

– يا إما طبع يا إما ضغوط عندك وبتنفسها ف وش اللي أدامك.

– محللة نفسية كمان!

– مش للدرجة دي.

– انتِ بجد إزاي كده؟ هادية دايما وبتعرفي تلاقي عذر للي أدامك!

– عادي.

– بلاش تجنيني وتقوليلي عادي.

– اسمحلي أسألك سؤال.

– إتفضلي.

– انت علاقتك بربك شكلها إيه؟

– هه! يعني إيه؟

– ربنا خلقنا جسد وعقل وروح، الجسد من تراب فغذائه من تراب أيًا كان نوع الأكل، والعقل غذائه دايمًا العلم والقراءة، لكن الروح غذائها إيه؟

– إيه!

– ربنا قالنا إن الروح من أمر ربي، فيبقى غذائها كلام ربنا والذكر بكل أنواعه، متضايق مخنوق مش متظبطة معاك طول الوقت لازم تراجع علاقتك بربك، وأبسط حاجة بتصلي؟

ابتلع وليد ريقه فجأة وهمهم بخفوت فلم تنتظر الإجابة فقد ادركتها فأكملت: الصلاة بتخلق السكينة والهدوء ف النفس وبتغفر الذنوب كمان بس مش الكبائر.

– وايه الفرق؟

– الكبائر ذنب عظيم زي الشرك وعقوق الوالدين والزنا وحاجات كتير كمان و…

قد لاحظت مرة أخرى وجه وليد وأدركت أنه ربما فعل من تلك الأشياء فابتلعت ريقها ببطء ثم قالت: بس دول لوحدهم لأن بيلزم التوبة منهم وعشان لو واحد كان بيعمل الحاجات دي فده أكيد لأن في سبب خلاه يعمل الحاجات دي فلازم يقعد مع نفسه ويعرف السبب اللي بيخليه يعمل كده ولما يعرف السبب يقدر يحل الموضوع من جذوره ويتخلص منه وربنا يتوب عليه.

– فعلًا.

– «…. والذين إذا فعلوا فـٰحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون »
يعني يحس بذنبه ويسيبه وينوي ما يرجعش تاني ويستغفر ربه فربنا يتوب عليه.

كانت شفق تتحدث بأسلوبٍ هادئ جذبه وأقنعه كثيرًا وفجأة صوت أذان العصر فصمتا بينما تمتمت هي ذاكرة لله، وبعد انتهاء الأذان.

قالت شفق: سامع! ده صوت الأذان، أحسن بُشرى ليك، ربنا بينادي عليك وعايزك، روحله روح يا وليد اتوضأ وصلي ف المسجد شوفهم بيعملوا إيه واتعلم منهم أحسن، صحبة بيوت ربنا أحسن صحبة ممكن تلاقيها عشان لله ف لله، ويمكن ربنا جعلني في طريقك وألهمني أقولك الكلام ده عشان عايزك، أصلك وحشته.

كان وليد في حالة لم يعهدها من قبل شعر بهدوءٍ شديد وحلاوة تتسرب داخله وأحس وكأنه فاقد السيطرة على نفسه فاقتنع بكلامها كثيرًا وذهب بالفعل إلى المسجد ولم تكن آخر مرة بل كانت البداية لحياة وطريقٍ جديد له.

لو ف يوم كان الحمل عليك ثقيل
وتايه لوحدك ومش لاقي دليل
والهموم تخلي الليل طويل
وترميك ف غربة ومرارة و ويل
مد إيديك تلقاه دايما حواليك
هو الله قبلك حاسس بيك
لو ف يوم خدتنا معاصي أو ذنوب
وخافت قلوبنا ما تقدر تتوب
وتشكي الروح ومين بالسر ليه تبوح
ومين اللي يقدر يداوي الجروح
قول ياالله ده منك مش بعيد
متشلش هم ولا تشعر بضيق
قول ياالله
اهدي لي قلبي عشان أتوب
امحي الذنوب واهديلي الطريق
نورلي الطريق
إن شاء الله إن شاء الله
إن شاء الله هتلاقي الطريق
(العوض الجميل)
الفصل السابع

بقلم:نهال عبد الواحد

مرت أسابيع وأسابيع دون أي لقاء فلم تعد تراه شفق لكنها تلتمس له عذره فهو الآن في رحلة تغيير مسار حياته وبداية سلك طريقٍ جديد.

طريق التوبة وهو طريق صعب يحتاج إلى قوة وتركيزٍ كبير ليستطيع السير فيه بسرعةٍ مناسبة وكلما تذكرته دعت له أن يثبته الله ويزيده هداية لكنها تعجبت من نفسها، ألم ننتهي من ذلك الأمر مسبقًا؟
لِمَ تسببتِ بصراعٍ بين القلب والعقل؟

-ماذا دهاكِ ياشفق؟! لقد عشتٍ أعوامًا وأعوام تغلقين ذلك القلب وتسيرين بمبدأ ممنوع الاقتراب أو التصوير.

– إهدأ يا عقل قليلًا لقد آن الأوان أن آخذ فرصتي وأعيش وأنبض.

-هل فكرت في عواقب ذلك يا قلب؟ إنك تسير في طريقٍ مسدود.

– لا يهم حتى ولو لم أجني سوى ذكريات قليلة فهذا يكفي، أقله أكون قد تذوقت طعم سعادة المحب.

-ستكون الصدمة واللطمة قوية يا قلب وأقسى ما فيها أنها ستأتي من المحب.

– اللي خلقك قالك عيشها ياابن آدم حب يومك وناسك وافرح عمر بطوله،
اللي خلقك حنين عايز راحتك فيها وإنت مش مخلوق عشان تتعذب فيها.
كفاك حسابات واتركها ياعقل يدبرها صاحب الأمر.

ولقد كان وليد حقًا يخطو خطوات طريق التوبة ويتمسك بها جانب عمله الجديد.

اعتادت شفق طوال تلك الفترة أن تجلس جوار حوض الزهور حيث آخر لقاء حتى وقت الغروب لتودع آخر شعاع للشمس في يومها كما تستقبله كل يوم.

كانت تستنشق عبير تلك الزهور وأحيانًا تتلمسها برقة.

وذات يوم بينما هي جالسة تذكرت وليد في كل لقاءاته وكيف كان مستفزًا ومتكبرًا للغاية لكن مع ذلك هو الوحيد الذي تحرّك إليه قلبها واختاره يدق له.

شعرت شفق بمن يجلس جوارها أرضًا فوق النجيل الأخضر وبين الزهور في ذلك الوقت البديع وبمجرد جلوسه انتفضت وكاد يخرج قلبها من مكانه وهي تلتفت مسرعة…
أجل إنه وليد! بعد غياب ولأول مرة ترفع عينيها في وجهه متفحصةً ملامحه، وصاحت بلهفة: وليد!

فأجاب بنفس اللهفة: أول مرة أعرف إن إسمي حلو كده.

فابتسمت وأخفضت نظرها، فأكمل: طب ينفع أقول وحشتيني؟
فهزت برأسها أن نعم بنفس الابتسامة، ثم قالت بخفوت: شكلك اتغير، للأحسن.

– اللي تدخل حياته ملاك زيك لازم يتغير للأحسن.

– مش للدرجة دي هو أنا عملت إيه يعني؟

– كنت ماشي في عتمة وبتخبط يمين وشمال وانت نورتيلي الطريق، إدتيني روشتة تحللي مشاكل كتير ونفسي ألاقي روشتة مناسبة ليكِ.

– لي أنا!

– امم! روشتة لوحدتك، حاسس دايما بحزن مدفون جواكِ.

– الوحدة! الوحدة صحيح بتقتل أوي، بس المشكلة إن ما ينفعش تدي مساحة لحد إنه يقرب، دايما اللي بيقرب لدرجة معينة بيبقى له حق يعرف أكتر وأكتر، بس اللي هيعرف أكتر مش هيفهم صح، فاختار أعيش بوشين وش شيك كلاس ارستقراطي ووش تاني بسيط حقيقي، أنا واحدة بسيطة من منطقة شعبية م اللي بيسموها لو استاندر، والدي كان عامل ف مصنع وعنده ورشة نجارة بيشتغل الصبح وبعد الضهر عشانا، رباني وكبرني وعلمني لحد مااتخرجت وهو اللي جابلي شغلتي ف المدرسة دي عن طريق واسطة كان يعرفها وقاللي أنا حطيتك ع الطريق وكملي انت الباقي بشغلك ومجهودك، ومن يومها وأنا بشتغل أكتر وأكتر ومحافظة على شكلي بس كان تمنه وحدة كبيرة أوي.

كانت تتحدث بعينين ملتمعتين تهدد بهطول دمعها في أي لحظة.

فسألها وليد: مالكيش إخوات أو قرايب؟

فانتبهت فجأة كأنما كانت مغيبة وهي تحكي وبدت مترددة وخائفة بشكلٍ واضح، فقال لها: خلاص خلاص ما تكمليش، بس لما تحسي إنك قادرة تكملي وتحكي أنا تحت أمرك.

نظر في ساعته وهم بالوقوف، فقالت: ماتخليك شوية.

فبدت عليه سعادة شديدة ولقاء طويل وصامت للعيون فقط، وبعد مضى بعض الوقت في ذلك الصمت قال: يادوب صلاة المغرب وبعدها ورايا حاجات تانية، وبعدين يادوب زمان شفق صحيت م النوم.

فنظرت له بتعجب ثم قالت: وإنت عرفت منين؟

سكت قليلًا ثم قال بتردد: هه! أكيد طبعًا نايمة، أمال هتسيبك تقعدي لوحدك إزاي؟

فهزت رأسها بأن نعم بتفهم رغم شعورها بأن لتلك الإجابة تكملة لكنها لم تسأل.

وقفت شفق لتغادر هي أيضًا فنادى عليها وقطف وردة جميلة وقدمها إليها، فأخذتها بابتسامة واسعة وسعادة شديدة ظاهرة تفاجأ بها فلم يتوقع وليد سعادتها بوردةٍ لتلك الدرجة.

احتفظت شفق بتلك الوردة بين إحدى صفحات مذكراتها وكانت تفتح تلك الصفحة كل يوم وتنظر إليها بنفس السعادة فهي ترى فيها وجه وليد الذي أخيرًا قد حفظت ملامحه الوسيمة التي تشبه نجوم السينما رغم عدم لقاءهما منذ زمن.

وذات يوم كانت ليلًا في بيت أبويها قلقة وخائفة كعادتها تحاول تذكر ملامحه أو أي موقف جمعهما ربما تستطيع النوم بهدوءٍ مستخلصة من ذلك الخوف الذي يتخللها دائمًا وبالفعل بدأت تغفو.

لكن فجأة صوت ضجيج أفزعها فهبت جالسة مزعورة تنهج بشدة وتشعر أن قلبها سيقف من الرعب، فاقتربت من باب الحجرة بجسدٍ مرتعش تفتحه بهدوء بإحدى يديها المرتعشتين بالأخرى تكتم بها صوت أنفاسها المرعوبة.

فجحظت عيناها من هول ما رأت، إنه أخيها ومعه فردان والثلاثة غائبي الوعي ويتمايلون من الثمالة ومعهم فتاة عاهرة وأصوات ضحكاتهم المقززة تملأ المكان وكادت أن تجن..

أيعقل ما يحدث؟!
ألتلك الدرجة وصل فسادك يا ابن أمي؟!
أتأتي بصحبة السوء إلى بيت أبيك؟!
أترضى بارتكاب الفواحش فيه؟
ياالله! ماذا أفعل ؟
هل أخرج لأطردهم شر طردة؟
لا لا، إن الخروج الآن غير مأمون العواقب على الإطلاق… إلزمي حجرتك وهدوءك وربي خير حافظًا.

وجلست ذاكرة لله في خوفٍ شديد ولكن فجأة….
من يقتحم حجرتها ويفزعها، فأضاء الحجرة ورآها فنادي لصاحبه ثم دخلا متحفذين…
فالذئاب قد وجدت فريستها!

كانت تصرخ وتصيح وتنادي على أخيها بأقصى ما لديها من قوة وصوت… لكن أين أخيها؟

فجذبت عبائتها ارتدتها بسرعة فوق جلبابها البالي، وضعت حجابها على رأسها بشكلٍ عشوائي متبعثر وهي تقفز من هنا إلى هنا وتقذفهم بكل ما تطوله يدها.

حتى أمسكت بباب خزانة الملابس المخلوع ورمته على أحدهما وضربت الآخر على رأسه بشماعة خشبية فشجت رأسه.

ثم جرت بأقصى ما لديها خرجت من بيت أبيها في هذه الساعة المتأخرة وأبواب الجيران تتفتح وترميها في عرضها بأقذر الكلمات وأخدشها حياء وهي تكمل ركضًا دون توقف.

جرت في الطرقات حيث المتسكعين والمستسكعات لكنها لم تتوقف وظلت هكذا، على قدميها فلم تأخذ معها أي نقود ولتسرع لتصل قبل الصباح قبل أن يدركها أهل المنطقة أو أحد السكان.

ظلت هكذا طوال الليل في خوفٍ ورعب حتى شق الأجواء صوت أذان الفجر الذي يهدئ نفسها كل يوم تسمعه، يعني لديها انتهاء ظلمة مرعبة وبداية صباح مشرقًا بالأمل.

دخلت أول مسجد قابلها، توضأت وصلت ثم دعت ربها كثيرًا بعدها جلست تستريح قليلًا، لكنها لا تشعر بجسدها ذلك فقد فاق إحساسها بالوجع حتى تبلد فلم تعد تشعر بوجوده أصلًا فخرجت لتكمل طريقها.

وأخيرًا وصلت إلى شقتها مع الساعات الأولى من الصباح الباكر ولحسن حظها أن اليوم عطلة ولم يتواجد أحد باكرًا وكانت معلقة  مفاتيح البيت والمصعد والشقة في خيط حول رقبتها  ففكته وفتحت.

دخلت شقتها وأغلقت الباب خلفها وأخيرًا عاد إليها الشعور فلم تحملها قدماها فسقطت أرضًا وهي تبكي بشدة، حاولت الوقوف والحركة حتى ولو حبوًا إلى  الحمام ثم فتحت الماء على رأسها فترة من الوقت ولازالت دموعها تجري دون توقف.

خرجت ودثرت نفسها في فراشها بأغطيةٍ كثيرة لكن لازالت ترتعش بشدة وتبكي بحرقةٍ شديدة وتنتحب أكثر وأكثر حتى بح صوتها من شدة البكاء لكن لم تتوقف عن هذه الحالة الهيستيرية حتى تكاد تفقد وعيها فترى ما حدث في منامها فتنتفض فزعًا، ثم فقدت وعيها مجددًا فترى أحدهما وقد لحق بها وقيدها عنوة و…..
فتنتفض مجددًا وتصرخ لكن لم يعد صوتها يخرج لقد اختفى…..

(الفصل الثامن)

كان وليد قد عهد صلاة الفجر في المسجد يوميًا وقد رأى تلك الليلة شفق في منامه تجري وتصرخ فاستيقظ لصلاة الفجر مفزوعًا مقبوض الصدر فنفض ذلك المنام من رأسه إلا أنه لم يتخلص من قبضة الصدر تلك طوال يومه.

انتظرت هالة وشفق الصغيرة شفق، فاليوم عطلة ولم تأتي على غير عادتها ومهما اتصلت بها هالة لا تجد ردًا فالهاتف مغلق فانتابها قلق عظيم حتى حل المساء ولا خبر عنها وكانت الطفلة طوال اليوم مزمجرة من حينٍ لآخر ثم بدأت في البكاء.

فتنهدت هالة وسألتها بضيق: في إيه تاني بس يا فوفا؟

أجابت الطفلة بحزن: ميس شفق ماجاتش إنهاردة وفضلتي تقولي جاية كمان شوية وما جاتش، أنا عايزة أروح أطمن عليها ، أنا عارفة البيت.

– هنروح إزاي بس؟

– هنروح زي ما بروح كل يوم عندها.

– السواق إنهاردة أجازة، هعملك إيه!

– ماليش دعوة.

وبدأت في البكاء مجددًا، فإذا بصوتٍ يحدثها: إيه يا حبيبة بابي، مين مزعلك؟

أجابت هالة بتنهيدة: مفيش حاجة يا وليد.

صاحت شفق: لا في! ميس شفق ماجاتش إنهاردة وكل مانتصل بيها تليفونها مقفول وأنا عايزة أروحلها وننا مش راضية.

فالتفت وليد نحو أمه متسآلًا: صح الكلام ده يا ماما؟

أومأت هالة: آه يا بني، وقلبي واكلني عليها هموت م القلق ومش عارفة اعمل إيه! دي وحدانية.

تابعت شفق: عايزة أروحلها يا بابي، بليز!

تنحنح وليد قائلًا: انتو عارفين بيتها فين؟

أهدرت شفق بحماس: أيوة يا بابي ننا عارفة السكة.

أجابت هالة: أيوة معايا العنوان، كنت ببعت السواق يجيب شفق كل يوم من عندها.

فقال وليد: طب اتفضلوا إلبسوا و يلا بينا.

وبالفعل بدلت كلًا من هالة وشفق ملابسهما وركبوا جميعًا في سيارة وليد، ظلت هالة تصف الطريق لوليد حتى وصلوا إلى البيت فترجل وليد أولًا يتحدث إلى حارس العقار، ألقى السلام فأجاب عم عبده: وعليكم السلام ياباشا، أي خدمة؟

– في واحدة ساكنة هنا إسمها ميس شفق هي مدرسة.

– أيوة.

– هي موجودة؟

– مش عارف، بس أنا ما لمحتهاش إنهاردة على غير العادة إنها ما تنزلش، يمكن ريحت ف البيت عشان أجازة، هو مين حضرتك؟

تردد وليد قليلًا ثم أجاب: واحد قريبها.

فنظر إليه الرجل نظرة لم تعجب وليد فذهب لأمه في السيارة لتنزل هي وشفق وما أن رآهما عم عبده حتى عرف الطفلة فهي تأتي مع شفق يوميًا وصعدوا جميعًا واصطحبهم حارس العقار حتى شقة شفق وبدؤا يطرقون الباب.

كانت شفق لا تزال في نفس حالتها المنهارة وما أن سمعت صوت طرق الباب حتى انتفضت من مكانها وارتعشت أكثر وأكثر، نهضت وارتدت إسدالها وسارت مترنحة من كثرة إنهيارها، ارتعاشها ووهنها أيضًا فلم يدخل أي شيء جوفها حتى اقتربت من الباب وقالت بصوتٍ مرتعش خوفا: مين؟

صاحت هالة: افتحي حبيبتي أنا ماما لولي.

فأخذت نفسًا عميقًا ثم فتحت المفتاح وأمسكت به في يدها ثم فتحت الباب، لكن بمجرد أن فتحته حتى سقطت مغشيًا عليها فأسرع وليد بحملها وذهبوا بها إلى المشفى.

وبعد فحص الطبيب….

تسآلت هالة بقلق: خير يا دكتور!

أجاب الطبيب بعملية: إنهيار عصبي شديد.

فسأله وليد: وده من إيه يا دكتور ؟

أجاب الطبيب: أنا اللي المفروض أسأل السؤال ده، واضح إنها اتعرضت لصدمة شديدة جدًا.

تابع وليد: إحنا لاقيناها كده.

قال الطبيب: إنتو مش أهلها!

أردفت هالة: لا يا بني هي وحدانية ومدرسة حفيدتي وكنا بنوصل البنت عندها لاقيناها كده.

أومأ الطبيب بتفهم: عمومًا الإجابة هتفضل معاها لحد ما تفوق، أو بمعنى أدق لحد ما تقدر تتكلم مع حد، أنا إديتها منوم هي محتاجة تنام.

وتركهم ودخلوا إليها الغرفة وكانت هالة تبكي وشفق قد تعبت ونامت، أما وليد نظر إليها بحزنٍ وحيرة شديدة متسآلًا ماذا حدث لتنهار هكذا!

لم يبعد وليد عينيه من عليها حتى وهو جالسًا بعيدًا عن السرير فانتبهت أمه لذلك خاصةً عندما غفلت عينا هالة قليلًا وفتحتها وجدت وليد جالسًا بالقرب من شفق يقبل يدها فابتسمت وأعجبها ذلك.

نادته أمه فجلسا في جانبًا بعيدًا عن شفق.

تحدثت هالة: مسكينة أوي البنت دي، يارب اشفيها واعفي عنها وقومها بالسلامة.

تابع وليد: يا رب.

– شفق ما ينفعش تفضل لوحدها تاني يا وليد، أنا هقولها بعد ما تخف تيجي تعيش معانا.

عقد وليد حاجبيه بتعجب قائلًا: تفتكري هتوافق!

– أيوة هتوافق.

فنظر إليها وليد بتساؤل ولم يعقب فأكملت هالة برفق: هتوافق لما تتجوزها يا وليد.

فانتفض من مكانه وصاح: أ….إيه!

– إيه مالها؟ البنت زي الفل وأخلاقها وطبعها بسم الله ماشاء الله، وأنا وشفق بنحبها ربنا يعلم أد إيه وهي كمان، وبعدين خلاص عينيك فضحتك وكله بان وما ينفعش تنكر إنك ما تقدرش تستغني عنها، إزاي غابت عني دي؟! دلوقتي بس عرفت سبب تغييرك!

فرد بغضب: هي مين دي اللي مااقدرش أستغنى عنها؟! لا وألف لا! لا يمكن أسلم نفسي لأي واحدة تاني من بنات حواء! فاهماني! كلهم عينة واحدة!

ثم انصرف مسرعًا، وللأسف انصرف تمامًا لقد عاد من جديد لحياة الفساد واللهو والمجون، لكن هذه المرة أشد وأكثر إيلامًا لنفسه.

فالبعد بعد العودة والهداية تكون معه وخذة ضمير، أحيانًا يحاول الشيطان إخمادها حتى لا تنجح في إيقاظ باقي الجسد.

لقد رأى وليد في هدايته أنه لأجلها، ربما كان ذلك في البداية لكن من عجائب وجمال الطريق إلى الله أن من يتذوق طعم القرب ومحبة الله يزداد حبًا وتعلّقًا لهذا الطريق.

لكن يلزم الاختبار وبما أنه قد أدرك ذلك فظن أن ترك الهداية تركًا لها، لكن هيهات!

فرغم كل الفساد الذي يغمس نفسه فيه يظل يؤنب نفسه مما يفعل فيعند ويرغم نفسه أن تفعل كأنه ينتقم منها أن أحبت -ثبتنا يارب جميعًا على طريق الهدى-

أما هالة فقد كانت هي والطفلة مع شفق يوميًا وكانت في البداية صامتة وشاردة تمامًا لا تتحدث مع إحداهما ولا تلعب حتى مع شفق.

كانت تعود بذاكرتها لذلك اليوم وتتذكر تفاصيله فتتألم وأحيانًا تتخيل أن أحدهم قد تمكن منها فترتعد فرائسها وتبكي مجددًا.

ومرت أيام وبدأت شفق تهدأ نسبيًا وخرجت من المشفى وعادت إلى شقتها وكانت هالة تأتيها هي وشفق وإحدى الخادمات فتجلسن معها طيلة اليوم.

لكن بمجئ الليل تنصرفن فتشعر بوحشةٍ وخوفٍ شديدين وتشعر بها هالة خاصةً عندما تسلم عليها عند انصرافها.

وذات يوم إذ كانت شفق تلعب جوارها وهي جالسة صامتة ترد على الكلام بالكاد.

سألتها هالة مترقبة: خلاص يا حبيبتي استقريتي هنا؟

فهزت برأسها أن نعم وبدأت ملامحها تتغير.
فتابعت هالة: مش قصدي، خلاص خلاص ما تقوليش حاجة.

لكن شفق تماسكت وقصت كل ما حدث وقبل أن تنتهي كانت عاودت البكاء من جديد فأهدأتها هالة واحتضنتها برفق.

تنهدت هالة براحة: الحمد لله إنها جت على اد كده حبيبتي، وحمد الله على سلامتك! خلاص الكابوس ده خلص وراح وأنا معاكِ أهو ومش هسيبك أبدًا لا أنا ولا شفق.

فنظرت ناحية الطفلة ثم اعتدلت متفاجأة ثم صاحت: ماما، هي شفق مالها؟

– مالها؟

– وشها أصفر أوي وشفايفها زرقا، هو باباها لسه ما لاقاش دكتور مناسب كل ده؟

فتنهدت هالة وقالت: إن شاء الله، لما يرجع.

صاحت شفق: إزاي يا ماما؟! صحة بنته أهم من سفرياته وشغله، ياريت كان ليّ كلام معاه كنت كلمته.

فنظرت لها هالة بتعجبٍ وعدم فهم لكنها لم تعلق.

وفي الفيلا جلست هالة إلى بعد منتصف الليل تنتظر ابنها حتى عاد أخيرًا، مترنحًا ويدندن فانتبه لوجود أمه.

فصاح بصوتٍ مخمور: ماما لولي! إده مستنياني بنفسك!

– يا أخي فوق لنفسك بأه، ده انا كنت ما صدقت إن حالك انصلح وعرفت سكة المسجد وواظبت على الصلاة، انت بتعاقب مين فهمني؟! ولا فاهم إنك بتمن على ربنا بتوبتك دي؟! الصالح صالح لنفسه وبس! بس أنا خايفة عليك، وخايفة على بنتك كمان، البنت حالتها بتتأخر وانت ولا على بالك! بدل ما تقرب من ربنا وتدعي ليل ونهار إنه يشفيها ويرزقك بدكتور شاطر يعالجها، شوف بتعمل إيه! كفاية يا بني بدل ما بذنبك ده تتحرم منهاز

جلس وليد ونظر بلامبالاة فقامت إليه غاضبة وجذبته من ملابسه هزته بكل ما أوتيت من قوة لكنه لم يبالي لها فلطمته على وجهه بأقصى ما لديها وهي تصرخ في وجهه: ما تفوق بأه! فوق!

فوجم وليد وتجمد مكانه ثم نظر نظرة طويلة بعدها جرى مسرعًا إلى غرفته.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة الان