الدكتور جلال زناتي يكتب(اقوي سلسلة مقالات عن الجاسوسية

أهمية الاستخبارات السياسية والعسكرية الحديثة     إن التخطيط السليم للمعركة يتوقف إلى حد كبير على معرفة نوايا العدو وأسراره، وإن الاستخبارات هي التي تمد القائد بالأسس التي يبني عليها قراراته. ولأهمية الاستخبارات العسكرية وشمولها نجد أن أعمال وأنشطة الاستخبارات العسكرية موجودة مع الإنسان منذ القدم ولكنها أصبحت في هذه الأيام أكثر استخداما وأهمية.

الاستخبارات لغةً: الاستخبار: السؤال عن الخبر، وعند أهل اللغة الاستفهام وطلب الفهم، وقيل: الاستخبار ما سِيق أولاً ولم يُفهم حق الفهم، وما سألت عنه ثانياً كان استفهاماً.

وفي الاصطلاح:  وردت تعريفات كثيرة عن ألاستخبارات، منها: أنها المعرفة والعلم بالمعلومات التي يجب أن تتوافر لدى كبار المسئولين من المدنيين والعسكريين، حتى يمكنهم العمل لتأمين سلامة الأمن القومي. وورد في قاموس المصطلحات الامريكية أن الاستخبارات: نتيجة جمع وتقييم وتحليل وإيضاح وتفسير كل ما يمكن الحصول عليه من معلومات عن أي نواحي دولة أجنبية، أو لمناطق العمليات، التي تكون لازمة لزوماً مباشراً للتخطيط.

   إن أعمال وأنشطة الاستخبارات كانت موجودة مع الإنسان منذ القدم، مارسها في سبيل تحقيق احتياجه، وفي سبيل تحقيق حماية نفسه وقوته، وقد بذل الحكام منذ عصور عريقة في القدم جهوداً كبيرة للحصول على معلومات عن البلاد المنافسة التي تقف أمامها موقف الخصم المزاحم، وكانت جيوشها حريصة على التعرف على معلومات عن الجيوش المنافسة وعن مسارح العمليات الحربية المحتملة أو المتوقعة.يقول (ألان دالاس) الرئيس الأسبق للمخابرات المركزية الأمريكية: تاريخ نشاط الاستخبارات قديم قدم المنافسة بين المجتمعات والأمم، وما دامت قد وجدت حاجة ملحة لحماية المصالح الحاسمة الاهمية لحاكم أو دولة أو حكومة، كانت هناك حاجة ملحة للاستخبارات، وهكذا كان من الممكن أن نجد في أقدم التسجيلات لحوادث التاريخ أقدم صور الاستخدام للاستخبارات. ونذكر من نشاطات الاستخبارات ما ذكره أعظم شعراء اليونان (هوميروس) عن قصة حصان طروادة. وطروادة مدينة قديمة في الاناضول (تركيا) على مسافة (1،2كم) شرقي مدخل الدردنيل من ناحية بحر إيجه. إن هذه القصة توضح مدى الدور الذي لعبته الاستخبارات في تحقيق ما لم يستطيع تحقيقه جيش كبير.

الاستخبارات الإسلامية

أ. اهتمام الرسول وقادة الإسلام بالاستخبارات:    استخدم الرسول صلى الله عليه وسلم استخباراته في غزوة بدر وفي غزوة الخندق وكان يحب أن يعرف عن عدوه أكبر قدر ممكن من المعلومات ويحرص على عدم تسرب معلومات جيشه إلى عدوه، لذا أمر زيد بن ثابت أن يتعلم لغة اليهود فتعلمها.أما خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم فقد ملئت وصاياهم إلى قادتهم بنصائح كثيرة تحض على معرفة أسرار العدو، وأهمها وصية أبي بكر الصديق لعمرو بن العاص عندما وجهه إلى ارض فلسطين، ووصية عمر بن الخطاب إلى سعد بن أبي وقاص، وهذه الوصايا مشهورة ومدونة في كتب التاريخ.ولقد تتبع المسلمون ما خطاه الرسول صلى الله عليه وسلم فاهتموا باستقصاء أخبار الأعداء في جميع أطوار حياتهم، وقد عني بها العباسيون عناية خاصة، فشكلوا دوائر استخبارات متعددة، منها: دائرة خاصة دعيت بالأخبار والبريد خاصة بالعيون الداخلية، وشكلوا دائرة أخرى خاصة بالتجسس الخارجي، كما شكلوا دائرة ثالثة خاصة بمكافحة جاسوسية العدو في البلاد الداخلية. وكان صلاح الدين الأيوبي يرسل سراياه لكشف أخبار عدوه من الزنكيين الذين استعدوا لطرده من دمشق، سنة 1176، وعرف أن الحلبيين ومن معهم قد بلغوا 000،20 فارس، وعرف استعداد ريتشارد الصليبي للذهاب إلى بيت المقدس سنة 1192، وكان عيون الاستخبارات لا يظهرون أنفسهم، فكان منهم الرجل والمرأة والشيخ والولد وابن السبيل والأحدب والكسيح وغيرهم… كانوا يرحلون إلى البلاد المجاورة متنكرين في زي التجار والأطباء والفلاحين يجمعون الأخبار ويرسلون بها إلى مراكز كانت منثورة في أطراف بلاد العدو، وكانت هذه المراكز توحد الأخبار بعد تنقيتها ثم ترسل إلى مراكز الدولة وعاصمة الخلافة. وقد استخدم في هذه الدوائر أهل الذمة، فكان اليهود يتجسسون لحساب المسلمين في الجزيرة العربية، وكان النصارى العرب أكثر الناس حباً بالجاسوسية لحساب المسلمين.ب. منهاج استخبارات الرسول صلى الله عليه وسلم:     وضع الرسول -صلى الله عليه وسلم- منهجا لاستخباراته يعد من أحدث المناهج الاستخبارية في زماننا، ذلك أنه نهى استخباراته عند خروجهم أن يحدّث أحدهم حديثا يدل عليه، لأن فوز الاستخبارات بالمعلومات النافعة أهم في نظر القيادة الحكيمة من قتل عدة فوارس. ففي يوم الخندق أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم (حذيفة بن اليمان) عينا على قريش، ونهاه أن يحدث حديثا حتى يعلم علمهم ويأتيه من أخبارهم ففعل. وسار الرسول صلى الله عليه وسلم في حروبه على هذا المنهج، فتراه في غزوة بدر يأمر أصحابه بأن يقطعوا الأجراس من أعناق الإبل حتى يكون سيرهم خفية، وفي غزوة الفتح كتم الرسول أمره، وقال لعائشة: “جهزيني ولا تعلمي بذلك أحداً”. ولما سار بأصحابه سأله بعضهم عن وجهته، فأجابه بقوله “حيث شاء الله”.ونهج أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم نهجه فكان عمر بن الخطاب ينهى الأعاجم عن دخول المدينة خشية التجسس على المسلمين، وكان عمر يمنعهم أن يحذوا حذو المسلمين في المدينة حتى لا يلتبس الأمر على الناس. وقد تشدد عمر بن عبدالعزيز في تنفيذ قانون الفاروق على الأعاجم، وكان يتهم المتساهل فيه بالضعف.وكان عمرو بن العاص في حروبه مع الروم يحتفظ بطائفة من استخباراته يتكلمون الرومية فكان يرسلهم إلى الروم متنكرين بينهم دون أن يحدّثوا حديثا، ويعودون إليه بأخبارهم، ثم صار القادة يهتمون باستخباراتهم اهتمام رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه من بعده بحيث لا يعرف بعض استخباراتهم بعضا إلا إذا اقتضى ألامر ذلك.ت. استخبارات الاستكشاف (الاستطلاع):ليس المقصود من بعث السرايا الاستخبارية القتال فقط، بل تارة يكون المقصود أن تستطلع خبر الأعداء فتأتي بما عزموا عليه. إن الاستخبارات الاستطلاعية من ألزم الأمور للجيش المحارب، إذا نزل بأرض العدو، إذ عليه أن يقدم بعض استخباراته ليختبر له أرض المعركة ويعرف مواقع العدو، ويجمع المعلومات الممكنة عنه، وهذا هو عمل الاستخبارات الاستطلاعية في العصور القديمة والحديثة، فهي تقوم بعمل العيون تقريبا ولكن في ميدان المعركة غالبا، فهي تباشر القتال إذا لزم الحال.وكان الوضع عند المسلمين أنهم يختارون استخباراتهم ممن عرفوا بالثبات والذكاء وسرعة التصرف والشجاعة والنجدة، ويحملونهم على سوابق الخيل، جيدة الحوافر والضمور ويرسلونهم متخففين من كل ثقل يعيقهم لتحقيق خفة الحركة لهم.وقد عمل الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا المبدأ، فكان يختار لاستخباراته خالدا وأمثاله ممن عرفوا بالشجاعة والنجدة، ثم صارت تلك عادة المسلمين دائماً. كان خالد بن الوليد يوفد استخباراته أمام جيشه للاستطلاع، وقد عرف عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قوله:(واعلموا أن مقدمة القوم عيونهم، وعيون المقدمة طلائعهم).أما عدد الطليعة الاستخبارية فقد أشار إليه الهرثمي، إذ نصح ألا تقل الطليعة عن ثلاثة: أحدهم يأتي بالخبر واثنان يتقدمان إلى العدو، بحيث يكون بينهم مسافة ميل في تقدمهم ليحفظ كل واحد منهم ظهر صاحبه، ونصح لهم بأن يكون تطلعهم على المرتفعات وألا يجروا خيلهم في الارض التي يثور غبارها، وألا يدخلوا أكثر من ثلثي الطريق بينهم وبين عدوهم. وهذه ظاهرة تطورت مع حروب الفتوحات الإسلامية، وهي تشبه في جوهرها استخبارات الاستطلاع والاستكشاف التي كانت في عهد نابليون، إذ لم يعرف عن قائد حديث أنه كان يعنى بالاستطلاع والاستدلال عناية نابليون الذي أخذ وتعلم درسا قاسيا من خلال حروبه. وفي العصور الحديثة نجد الدول كثيرا ما تهتم بأمر الاستخبارات الاستطلاعية سواء الجوية أو البحرية أو البرية بواسطة الأقمار الصناعية والطائرات والسفن ووسائل العصر الحديثة بغية الحصول على معلومات عن الدول الأخرى.

أما الاستخبارات الحديثة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية ازدادت عمليات التجسس والتسلل وكان من نتيجة ذلك أن ازداد اهتمام الاستخبارات بالأمور الأمنية حتى تضع العراقيل والعوائق أمام العملاء، وتجعل مهمتهم أكثر صعوبة. ومع تطور الصناعة العسكرية واستخدام الوسائل الحديثة في الآلة الحربية أصبحت الدول تهتم بتطوير أجهزة الاستخبارات وتعتمد على الأقمار الصناعية بشكل عام، وخاصة عندما تدخل في العمليات الحربية، حيث تلتقط هذه الأقمار الصور الدقيقة التي سيتم قصفها أو مهاجمتها.ولنا في ذلك أمثلة كثيرة في الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة أخيرا وبخاصة حربها الأخيرة على العراق حيث يروي رجل المهمات الروسي (بوريس سنوفسكي) في مقابلة له في جريدة الرياض بتاريخ 15-1-1424ه انه اطلع على تقارير تقول إن ستة أقمار صناعية تقوم بالتجسس على العراق من أهمها قمر يدعي (ميستي) المتنوع المهمات ويحمل معدات زنتها 15 طناً وكلفته وصلت إلى مليار و 400 مليون دولار وهو يقوم بمسح أجواء العراق من الجنوب وحتى الحدود مع تركيا في أقل من ساعة، يتنصت خلالها ويلتقط الصور ضمن مساحة قطرها 240 كيلومتراً ويبثها مباشرة إلى مراكز مراقبة منتشرة في خمس محطات أرضية تابعة لشبكة (إيشلون) الشهيرة بالتنصت حيث بالإمكان التعرف من محطاتها الأرضية ساعة بساعة على أي تحرك يشتبه به على الأرض. إلا أنه مع هذا التطور لم تغفل وتتجاهل هذه الدول دور رجال المخابرات والجواسيس الذين تعتمد عليها بدرجة كبيرة من أجل المحافظة على أمنها القومي.

 

 

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة الان