التقدم الاقتصادي النكوص المجتمعي..!

بقلم:يحيى الزنط
ثمة علاقة ارتباط بين التطور الاقتصادي وعدم الاستقرار الاجتماعي، إذا ما تم نمواً اقتصادياً ولم يُصاحبه تطوراً ونمواً اجتماعياً وثقافياً موازٍ له إن لم يكن سابقاً عليه، ويأتي هذا المقال في سياق” افتتاح مشروعات اقتصادية عملاقة في مصر خلال الفترة المُقبلة”، إنشاء الله، ليدق جرس إنذار، بحتمية إحداث نمواً اجتماعياً وثقافياً للمجتمع المصري في هذه الفترة، وأن يأخذ علماء العلوم الاجتماعية والسياسية والإنسانية والنفسية بمعول المشاركة في البناء الاجتماعي المصري واستشراف المستقبل بالتوازي مع بالبناء الاقتصادي القائم، فالحضارة المصرية الحديثة المزمع إقامتها ونتطلع إليها جميعاً، لا تقوم على العوامل المادية فقط، وإنما تقوم على العوامل الأخلاقية والثقافية والروحية والعلمية بالتوازي مع الأخيرة.
لذا يقوم هذه المقال بعرض بعض الأثار السلبية الناتجة عن تحقيق نمواً اقتصادياً غافلاً أو متغافلاً وجاهلاً أو متجاهلاً للأبعاد الاجتماعية والثقافية والسياسية للمجتمع، والتي قد تؤدي إلى مخاطر جمة.

فالتطور الاقتصادي,قد يُزيد من معدلات عدم الاستقرار الاجتماعي، ومن ثم ينتج عنه اضطرابات وقلاقل يجب أخذها في الاعتبار، فمن المفترض أن “التطور الاقتصادي”، يزيد قدرة المجتمع على تحقيق طموحه، وينبغي بالتالي أن يحد من الإحباط الاجتماعي وعدم الاستقرار السياسي الناتج عنه.

ومن المفترض أيضاً، أن النمو الاقتصادي السريع يخلق فرصاً جديدة للاستثمار والتوظيف ويحد من معدلات البطالة، وغيرها من المطالبات المشروعة، وهو بذلك يحول الطموحات والمواهب إلى الإهتمام والانهماك في جمع المال، بدلاً من انهماكاً محتملاً في إعداد الثورات والاعتصامات والمظاهرات وغيرها، من مظاهر الحراك الاجتماعي..

 لكن من الممكن مناقشة الأمر بأسلوب معاكس، والقول بأن التطور الاقتصادي نفسه هو عملية بالغة التأثير في انعدام الاستقرار الإجتماعي ، وإن التغييرات نفسها الضرورية لتحقيق الطموحات الاجتماعية المشروعة، تنزع في الواقع إلى ارتفاع سقف هذه المطالب والمطامح وتفاقمها، دون وعياً وثقافة موازية، لذا قيل أن النمو الاقتصادي السريع دون حدوث نمو اجتماعي وثقافي موازي ، يؤدي إلى ما يلي:
 1-مزق الطبقات الاجتماعية التقليدية التي ينهض عليها البناء الاجتماعي والثقافي للمجتمع (العائلة، القبيلة، الطبقة الاجتماعية، المؤسسات الاجتماعية، الوظائف والمهن،.. إلخ)، وهو بالتالي يزيد من عدد الأفراد الذين تنخفض منزلتهم الاجتماعية، ويندفعون في هذه الحالة إلى الاحتجاج الثوري، كما حدث من قِبل بعض رجال الأعمال في مصر، وما أُطلق عليهم إعلامياً “فلول”، أو قيام بعض الوظائف والمهن بالإهمال في وظائفها، إو إشاعة القيم الثقافية السلبية، مثل بعض رجال الإعلام والصحافة الذين تربعوا على عرشها لسنوات طويلة، فقدوا منزلتهم وسطوتهم ونفوذهم.
2-. ينتج النمو الاقتصادي دون نمو اجتماعي وثقافي موازي أثرياء مُحدثي النعمة، وهؤلاء لا يتكيفون مع النظام السياسي والاجتماعي الموجود، لأنهم لا يملكون الوعي الثقافي والمسؤولية الإجتماعية المطلوبة في هذه المرحلة، ومن ثم يرفضون الخضوع له، ويُطالبون بنفوذ سياسي ومكانة اجتماعية يتناسبان وموقعهم الاقتصادي الجديد، وهي الطبقات التي يُطلق عليها “نوفو ريش“.
3- يزيد النمو الاقتصادي دون النمو الاجتماعي والثقافي التحرك الجغرافي الذي يقوض الروابط الاجتماعية ويُفسخها، ويُشجع – على نحو خاص – على الهجرة السريعة من المناطق الريفية إلى المدن، مما يسبب الانعزال والتطرف السياسي، نتيجة عدم قدرتهم على التكيف مع المجتمعات التي انتقلوا إليها، ومتطلبات العيش فيها.
4- يزيد عدد الأفراد ذوي المستوى المعيشي المرتفع والمتوسط الأخذ في التدني، الأمر الذي يُعمق الهوة والفجوة بين الأغنياء والفقراء، ومن ثم ترتفع معدلات الصراع الطبيقي نتيجة تفشي مظاهر الحقد والحسد من قِبل الطبقات الدنيا، وارتفاع نبرات الاستعلاء من الطبقات العليا.
5-يطلب النمو افقتصادي ترشيداً في الإستهلاك، وفرض حظر عام على أنماط وثقافة الاستهلاك لدى المواطنين، من أجل دفع عمليات التوظيف، وهو بذلك يثير إستياءً شعبياً.
6- تزايد معدلات محو الأمية، وارتفاع مستوى التعليم ونشر وسائل الإعلام، الأمر الذي يدفع بالطموح إلى مستويات يصعب تحقيقها.
7- يزيد النمو الاقتصادي دون وعي مجتمعي موازٍ إلى زيادة حدة النزعات الاجتماعية والعرقية والأيدلوجية حول توظيف موارد الدولة وتوزيع خدماتها وأنماط الاستهلاك، والمُطالبة بمستوى جودة في الأداء المؤسسي للحكومة غير متوافر، نتيجة أزمة التعليم والتدريب والإدارة العامة المسيرة لأجهزة ومؤسسات الدولة بشكل عام، هو الأمر الذي يخلق فجودة بين الأداء الحالي والأداء المتوقع منها، ومن ثم تفقد مؤسسات الدولة ثقة المواطنين فيها وأدائها، كنتيجة للفجوة بين الأقوال والتصريحات الرسمية، والأداء الفعلي والواقعي الذي يلمسه المواطن في تعاملاته اليومية معها.
8- يعزز القدرات على التنظيميات الإجتماعية المدنية، ويُضاعف بالتالي قوة المطالب التي تفرضها منظمات المجتمع المدني والنقابات على الحكومة، والتي تجد نفسها عاجزة عن تحقيقها، إلى درجة أن هذه العلاقة تثبت بأن النمو الاقتصادي يعزز الرفاهية المادية بسرعة معينة، لكنه يعزز الإحباط الاجتماعي ايضاً بذات السرعة.
ولقد قدم عالم الاجتماع السياسي ” دو توكفيل”، شرحاً نموذجياً لارتباط التطور الاقتصادي السريع على وجه الخصوص بعدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي من خلال دراسته للثورة الفرنسية، وقال “أن الثورة الفرنسية سبقت بتقديم سريع لم يسبق له مثيل في ازدهار الدولة الفرنسية، وهذا الازدهار الأخذ بالتزايد لم يكن مطمئناً للشعب الفرنسي، بل أشاع في كل مكان مشاعر القلق، وأن معدلات الاستياء الشعبي ارتفعت إلى أعلى مستوياتها في المناطق الأكثر تطوراً على وجه التحديد”، كما إن ظروفاً مماثلة من الرخاء الاقتصادي سبقت حركات الإصلاح الاجتماعي وأدت إلى الاضطرابات والاستياء في إنجلترا في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر.
فلاشك ان أسباب وجود هذه العلاقة بين النمو الاقتصادي السريع، وعدم الاستقرار الاجتماعي ، هي وإلى حدٍ ما، أكثر تعقيداً مما تبدو ظاهرياً، فالعلاقة ناتجة وإلى حدِ كبير، من غياب متغيرين كامنين ومؤثرين هما كالاتى:

الامر الأول: يتمثل في عدم القدرة على إقتناص فرص التحرك الاجتماعي والاقتصادي، من خلال مؤسسات حكومية قابلة للتكيف، مع واقعها الاجتماعي الجديد، والذي يعتمد بدرجة كبيرة على طبيعة البينة الاقتصادية والاجتماعية التقليدية السائدة، ومن الممكن التغلب عليه من خلال تنمية اجتماعية وثقافية موازية مع النمو الاقتصادي، من خلال تحديث عمليات التعليم والتنشئة الاجتماعية، ووسائل الإعلام ، ونشر ثقافة التنمية الشاملة والمستدامة في كافة قطاعات ومؤسسات الدولة، جغرافياً ونوعياً ، وأفقياً بدءً من المناطق الريفية وحتى الحضرية منها، ورأسياً من حيث جودة مخرجاتها وخدماتها المُقدمة للمواطنين.
الأمر الثاني: وينشأ من غياب الفرص المُحركة لمؤسسات الدولة وتنميتها، حيث تناولت دراسة تحليلية لـ 26 دولة، تدني معدلات شعور قادة مؤسسات تلك الدول، الحاجة إلى التأهيل والحاجة إلى الاكتفاء بما هو موجود من الكفاءات المسيرة لعملياتها الإنتاجية، والتي كانت سبباً في تفاقم مشاكلها وزيادة معدلات استياء المجتمع من أدائها، وعدم الرغبة لدي قادتها لإجراء تغيرات إدارية وتنظيمية لمؤسساتها، فكانت النتيجة ارتفاع معدلات الإحباط المجتمعي من أدائها، وفقدان الثقة المتبادلة بين المجتمع ومؤسسات الدولة، نتيجة عدم المساواة وتفشي مظاهر التسيب والإهمال اللامبالاة، الأمر الذي أدي إلى عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي بها، ويمكن التغلب على هذا الأمر، بإعادة النظر في الفلسفة التي قامت من اجلها تلك المؤسسات، ووظيفتها داخل المجتمع، وإعادة صياغة سياستها العامة أهدافها واستراتيجياتها، بما يتوافق مع تطلعات الواقع الاجتماعي المُعاصر، وأهداف وطموحات المواطنين، وخلق مصالح مشتركة يلتف حولها المجتمع بأنساقه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وأطيافه وفئاته المختلفة، وعليه، فمن الخطأ الفادح السعي لتحقيق نمواً إقتصادياً ، دون أسبقية السعي إلى إحداث تطويراً ونمواً ثقافياً وإجتماعياً للمجتمع المصري، أو موازياً له على أقل تقدير، وهذه مهمة علماء وباحثين مصريين وطنيين، وليست مهمة إعلام جاهل، أو إعلاميين وصحفيين أصحاب أجندات غير وطنية، وفي الأخير

تحيا مصــــرنا الحبيبة، ولا نملك في هذه الأيام المباركة إلاَّ الدعاء لمصر وللمصريين ولرئيسنا ولرجال جيشنا وشرطتتنا البواسل.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة الان